الحجاج بن يوسف ( ٤١ – ٩٥ هـ / ٦٦١ – ٧١٤م)

تاريخ الحجاج بن يوسف

أبو محمد الحجاج بن يوسف الثقفي ولد في الطائف نحو سنة ٦٦١م / ٤١ هـ ، ولما شب احترف مهنة التعليم ، ثم انضم إلى جيش حيش بن دلجة القيني ، ثم الى شرطة روح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك ابن مروان ، ثم ولي على جند عبد الله بن الزبير في الحجاز وقتله ، ثم ولي العراق وفيه من الأحزاب نار مشبوبة ، فكان حرباً هائلة على كل ثورة وفتنة. وهكذا كان الحجاج رجل إدارة وشجاعة ، كما كان حاكماً مستبداً، وداهية من أدهى الدهاة وأعنفهم ، وقد أضاف إلى أعماله أنه بنى مدينة واسط بين الكوفة والبصرة. وقد توفي نحو سنة ٧١٤ م / ٩٥هـ.

أدب الحجاج بن يوسف 

للحجاج بن يوسف خطب ورسائل مبثوثة في كتب الأدب ، وقد قامت شهرته على خطبه ، وفيها صورة صادقة لنفسيته ومذهبه في السياسة والحكم، كما فيها مقدرة عجيبة على تفهم نفسية العامة وعلى التصرف في وجوه التعبير والتهويل.

 قيمة خطابت الحجاج بن يوسف 

 خلق الحجاج بن يوسف أديباً وخطيباً ، فكان من أعلام الفصاحة والبيان. والخطبة عنده انفعال صاحب وكلام لاهب. إنه ذو نفسية شاذة تريد تكوين الذات على جثث القتلى، وتستطيب سفك الدماء في سبيل غاية تنشدها ، والوسيلة عندها صالحة أياً كانت ، والناس في نظرها قطيع غنم يُساق بالعصا ، ويُجز ويذبح ، وليس لهم أن يروا رأياً ، ولا أن يعترضوا اعتراضاً ، ولا أن يحكموا في صالح أو باطل. لقد خط له زياد ابن أبيه الطريق، وأراد أن يتجاوز الغاية ، فمضى في تعسفه قولاً وفعلاً، ومضى في طغيانه يرعد ويزيد ويهدد ، فكان كلامه صورة الغليانه وشتى أحوال نفسه العنيفة.

لم يكن الحجاج بن يوسف ليصطنع القوة اصطناعاً ، ولم يكن ليزيف الكلام تريفاً . إن أعماله وأقواله صادرة عن تجربة ذاتية صادقة ، صادرة عن طبيعة تتدفق في ما تفعل وفي ما تقول . إنها الذات التي اكتنفها النقص في الجسم وفي الحياة الاجتماعية ، وحملها على الانتقام من الوجود بثورة عارمة على الوجود. ولهذا كله تلمس في خطابته عنفواناً حياتياً ، هو أعنف ما يكون العنفوان ، وأشده عصفاً ، وأقواه فاعلية، وأبعده أثراً في النفوس .

وهذه الحياة عند الحجاج  يساندها لسان من أعنف الألسنة بياناً ، وأشدها إغراباً ، وأوجزها تركيباً للعبارة ، وأبوعها اختياراً للفظة المعبرة عن أعنف معنى أتم ما يكون التعبير، وأعنف ما يكون الأداء ، وأعنف ما تكون الموسيقى المرافقة لذلك الأداء المقررة لذلك المعنى . ان الألفاظ عند الحجاج هي صرخات نقمته ، ووخزات وحشيته في قلوب الناس، وطعنات شذوذه في ضمير الوجود.

 وهذا كله تحول في الدعامة الحجاجية الى هيمنة بلاغية ، ولا سيما وان الكلام في خطبه إرهابي ترهيبي ، والترهيب عنده تمثيل للعنف بأقبح صور التهويل، وأشدها نطقاً بما يروع القلوب ويحطم الهمم. وخطب الحجاج صور تلو صور ، ومشاهد تلو مشاهد تتخللها القصفات الندائية ، العاتية، والانتفاضات العصبية الجامحة.

والحجاجالى ذلك من أقدر الناس على تمثيل الأدوار على مسرح الخطابة . عرفنا كيف دخل مسجد الكوفة ، عندما تولى أمر العراق، وهو متلثم والى جنبه السيف، وفي منكبه القوس، وكيف اعتلى المنبر صامتاً وعلى فيه إبهامه ، وكيف مكث ساعة لا يتكلم والناس بين حائر وساخر ، ثم أخيراً كيف الفجر انفجار السيل الجارف. ويروى عنه أنه كان أحياناً يبدأ خطبته بصوت منخفض ، ثم يأخذ في رفع الصوت شيئاً فشيئاً ، ويطلق يده من مطرفه مرافقة حركة الصوت والتماع العينين. وهكذا كان الحجاج يخطب بنفسه وقلبه ولسانه ووقفته وحركة اليدين والعينين. وكان كلامه دائماً كلام البلاغة التي لا تطلب الاقتناع بقدر ما تطلب الإذعان والانقياد.

تطورت الخطابة في عهد بني أمية

تطورت الخطابة في عهد بني أمية تطوراً ملموساً. فهي ، قلما سبق، وسيلة الإقناع والموعظة والإرشاد، وهي الآن وسيلة السيطرة والتعسف والاستبداد، وقد بلغت مع الحجاج بن يوسف أوج العنف والقسوة ، وأصبحت معه سوطاً في الظهور ، وشفرة في التحور ، وقضاء جباراً يصل الى العظام والأمخاخ ، حتى لكأن الناس قطيع من السائمة ، والحكام جزارون جائرون، لا يُعالجون الأمراض إلا بالبتر والكي، ولا يداوون النفوس إلا بتمزيق الأجسام وتحطيم العظام.

يهدف الحجاج بن يوسف كزياد الى فرض السياسة الأموية والى الإصلاح الاجتماعي الذي تسيطر معه تلك السياسة والإصلاح، في نظر الحجاج، هو تجريد الإنسان من إنسانيته ، هو أن يهون المستمع الى حد الموت التفاعلي ، فلا يتصلب ، ولا يحتج ، ولا يتظلم ، بل يلزم جانب التقبل والانفعال. ومن ثم فالحجاج يشتمه ، ويحقره ، ويبعث في ذاته الاشمئزاز من ذاته، بحيث تقلص شخصيته تقلصاً تاماً .

ثم يعمل الحجاج  على ن بـ بعث الذهول في نفس المستمع ، فينهال عليه : تهديداً وترهيباً ، في غير لين ولا شفقة ، وهو يعمد في ذلك الى ضروب من العوامل الإرهابية ، فيت القوة في كل ما يقول وما يفعل، واذا القوة تمثيل على المنبر، وإغراب بدوي في اللفظ والعبارة ، وتأكيد وقسم، وموسيقى لفظية شديدة، وأبيات شعرية عنيفة في معناها وتلاطم ألفاظها ، وتجسيم للحقائق على خطة الجاهليين، وحشد للصور التهويلية التي يقذفها الخيال الجبار حمماً مشتعلة.

والحجاج بن يوسف في ذلك أقدر من زياد، تتمكن النزعة البدوية فيه ، وسلطانه الواسع على اللغة وأساليبها، وتأصل الموهبة الفنية في قواه الذهنية واللسانية. والأمر الذي نلمسه في خطابة الحجاج هو تلك الصنعة البدوية التي تتسلح بالسجع على أنه تكرار لصوت القضاء المحتوم ؛ والسجع في خطبه محكم الفواصل ، شديد الروي.

والغريب في الأمر أن الحجاج كزياد يعمد الى الآيات القرآنية، ويتستر بستار الدين لتقوية كلامه، والوصول به الى النفوس. وهذا التدين خطة مكيافيلية أموية لا تؤمن إلا بسياستها والضغط على الحريات والتحكم برقاب العباد.

– وإذ كان الحجاج بن يوسف  رجل انفعال شديد فقد فقدت خطبه إحكام التسلسل الفكري، وبدت غير متزنة في عنفها، غير متدرجة في تصاعد عملها التأثيري، واكتفت بالجو الرهيب، والتجسيم الحسي الغريب.

اقرء المضید

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top