تاريخ زياد ابن أبيه
أبو المغيرة زياد بن سمية المعروف بزياد بن أبيه من أهل الطائف ، ويُنسب إلى أبي سفيان . ولد حوالي السنة الأولى للهجرة ، وكان منذ حداثته سديد الرأي ماضي الهمة ، وقد ولي بعض الأعمال فأظهر صرامة ولباقة ، ولما تسلم معاوية زمام الخلافة استحلقه بنسبه بعد أن أشهد أناساً من المسلمين أنه ابن أبي سفيان ، وولاه البصرة والكوفة وخراسان و سجستان ، ثم جمع له الهند والبحرين وعُمان فساس البلاد سياسة صارمة وطدت أركان الأمن وقضت على كل شعب وفساد ، ولبث على تلك الحال إلى أن توفاه الله سنة ٦٧٣م / ٥٣ هـ .
أدب زياد ابن أبيه
لزياد ابن أبيه عدد من الخطب السياسية والإدارية أشهرها الخطبة البتراء التي ألقاها سنة ٦٦٥م / ٤٥ هـ . لما قدم البصرة والياً من قبل معاوية . وقد سميت خطبته البتراء لعدم بدئها بحمد الله، وقيلى غير ذلك.
1 – تولى زياد أعمال البصرة والكوفة وخراسان وسجستان بيد شديدة ، وقد أعان ساعده بلسانه ، فقام على المنابر خطيباً ينشر الدعوة لبني أمية، ويدعو الى السكينة والانقياد ، فكانت خطابته سياسية بحتة . وكان الى ذلك يتمتع بسلطان واسع على أبناء ولايته ، كما كان شديد الاطلاع على أحوالهم النفسية ، وعلى انضمام الكثيرين منهم الى صفوف الشيعة والشعوبية ، ورأى أن السلام لا ينال إلا بالقسوة الساهرة ، وكان الى ذلك كله رابط الجأش ، مد البصر، نافذ البصيرة، خبيراً بأحوال الشعوب ونفسياتها ، فأطلق لسانه يوم قدم البصرة والياً فكانت خطبته و البتراء، وهي أشهر خطبه على الاطلاق. ويروى أنه لما فاه بها ، وجم لها الناس فمنهم من أذعن لها خائفاً ، ومنهم من أثنى متعلقاً ، ومنهم من حاول الإنكار ، ولكن سياسة زياد العملية لم تلبث أن بينت للناس أنه جاد غير هازل في ما أعلن من نذيره. وقد عدت تلك الخطبة إعلاناً لأول حكم عرفي في الإسلام
لما افتتح زياد ابن أبيه الخطيب
افتتح الخطيب خطبته بتوجيه الاتهام الى أهل البصرة وإيضاح تبعة الأعمال التي يقومون بها ، مبيناً أنها خروج على الدين الإسلامي وأنها من ثم تستحق العقاب الصارم. وإذ كان هو والي الخليفة الشرعي كان عليه أن ينتصر للدين وينتقم له من الضالين والمفسدين. وفي هذا كلام منطق سديد لا يعروه ضعف، وسياسة بعيدة الآفاق متسترة تحت ستار الغيرة على الدين، وإعلان لواقع الخلافة الأموية في غير مناظرة ولا نقاش .
والذي يبدو لك في هذا القسم من الخطبة أن عبارة الخطيب متطاولة ، مترابطة ، يفصل فيها التهم ببرودة وهدوء واسترسال ، وكأني به يتلو بياناً في صراحة ، ووضوح ، ودقة ، ويقدم البرهان الموجز تأييداً للقول ، وهذا كله بلهجة جازمة لا تقبل اعتراضاً ولا تأويلاً. وهو في بيانه الاتهامي يشدّد على بعض الأمور فيطيب في ذكرها ويخرج عن سنة الإيجاز التي اتبعها في كلامه :
أما بعد ، فَإِنَّ الجهالة الجهلاء، وَالضَّلالة العمياء، والغي الموفي بأهله إلى النار ،ما فيه سُفَهَاؤُكُمْ، وَيَسْتَمِلُ عَلَيْهِ حُلْماؤُكُمْ.
وهو يتخير ألفاظه وتعبيراته تحيراً، فيختار لفظتي و الجهالة الجهلاء، ليتهم بالرجوع إلى الجاهلية ، ويختار النعوت الجهلاء – العمياء – الموفي بأهله الى الناره التقوية فكرته ونقل المستمعين من الاسلام الى أهل النار ، ويختار الفعل وأحدثهم ، للدلالة على أن فعلتهم ليس لها مثيل في الإسلام ، وانها حدث جديد بعيد عن روح الدين ، ومروق لا يشبهه أي مروق، وفي ذلك كله براعة رائعة .
ينتقل الخطيب الى الاستفهام الإنكاري
ثم ينتقل الخطيب الى الاستفهام الإنكاري، والى العبارة ذات التقطيع المفعل بانفعال صاحبها ، والمشتد باشتداد اللهجة ، فتمازج أساليب الإيجاب بأساليب النقي ، وأساليب الخبر بأساليب الإنشاء ، يُضاف الى ذلك ما هنالك من تقديم وتأخير ، وتأكيد وقسم مما يكسب الكلام قوة وبلاغة نادرتين : الم يكن منكم نهاة يمنعون القواة عن دلج الليل وغارة النهارا ما أنتم بالحلفاء ، وقد اتبعتُم السفهاء. حرام على الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراق. وإلي الأقسم بالله الأحدد الولي بالمولى
ويعمد زياد ابن أبيه الى خطة الإيهام
ويعمد زياد ابن أبيه الى خطة الإيهام، فيوهم الناس أنه يعود الى خطة السلف الصالح ، أي الى خطة عمر بن الخطاب المستقاة من روح الإسلام : ولين بغير ضعف وشدة في غير عنف فينطلق في التهديد والوعيد ، والترهيب والترغيب ، في انضباط حازم، وهيمنة قهارة ؛ وينطلق في التشريع ، وإذا التشريع إرادة لا تقبل احتجاجاً ولا دفاعاً ، وإذا هي حكم عرفي ، وإذا هي أخذ بالشبهة والريبة ، وإذا هي إشراك البريء في إساءة المسيء … وكل ذلك تحت ستار الدين ودفاعاً عنه ! . وشتان ما بين روح الدين وروح الميكيافلية الأموية !
فإِيَّايَ وَدَلَجَ الليل ، فإني لا أولى بمدلج إِلَّا سَفَكْتُ دَمَهُ … وَإِيَّايَ وَدَعْوَى الجاهلية، فإني لا أجد أحداً دعا بها إِلَّا قَطَّعْتُ لِسَانَهُ !
٦ – وينتقل الخطيب بعد ذلك في سلسلة أفكاره المحكمة الى قانون العقوبات وإذا هو ثالثة الأثاني ؛ وإذا كلام الخطيب ضربات في القلوب ، ترن فيه العبارات رنين المطرقة في الآذان، في إيجاز جازم، ولفظ حازم
وإنك وأنت تقرأ خطبة زياد تلمس فيها شخصية صاحبها القوية ، تلك الشخصية المكونة من جرأة وصراحة ورباطة جأش ؛ تلك الشخصية اللبقة في صرامتها، المهيمنة في صراحتها ، التي تبرهن في براعة عسكرية، وتسن الدساتير في استبداد وسلطان. فهو ولا شك ، كما قال الأصمعي ولكل كبيرة وصغيرة ..
وعبارة زياد بن ابیہ مختلفة بين الطول والقصر ، ليس فيها من العصب ما في عبارة علي ، وليس فيها من التصرف بوجوه الكلام ما في عبارة الإمام وهي لا تخلو من صور شديدة الصلة بالواقع . إنها عبارة خطابية واضحة الهدف، تجري الى هدفها جرياً في غير التواء ولا اعوجاج. انها عبارة الصراحة والجرأة والسلطان الذي يسيطر ويقهر.