جریر
جریر

جرير

 مولد جرير ونشأته

أبو حزرة بن عطية بن حُذَيْفَة المُلقب بالخطفي ، ابن كليب اليربوعي التميمي ، ولد باليمامة نحو سنة ٦٥٣م / ٣٣ هـ من أب وضيع حامل بخيل ، ونشأ في عشيرته نشأة البدوي الفقير الخشن العيش ، يرعي لأبيه غنيمات من الضأن والمعزى ؛ وكان فصيح اللسان من صغره ، مطبوعاً على الشعر ، فقاله صبياً ، وأظهر حدة وشدة على اخصامه من قبيلته ومن القبائل التي كانت تنازع قبيلته حتى عظم أمره .

كان جرير في طريق المجد والشهرة 

ولما اشتعلت نار التنافس الشديد بينه وبين الفرزدق، هجر اليمامة متوجهاً إلى البصرة، عازماً على تحقيق طموحاته في الشهرة والثروة اللتين لم يجد لهما موطئ قدم في اليمامة. العراق راح يضرب في الأرض الى الحجاز فالعراق فالبحرين فاليمامة قدمشق فالرصافة ، منتجعاً ذوي السلطان ، وافداً على الأمراء ، وقد يكون أولهم يزيد ابن معاوية ثم الحجاج ثم بشر بن مروان . ولقي لدى الحجاج حظوة كبرى ، وطارت مدائحه فيه . وقد تزوج الشاعر بعدة نساء يذكر منهن ثلاثاً في شعره وكان له عدة أولاد أكبرهم وحزرة .

اتّصل الشاعر بعبد الملك بن مروان، وذلك أنه رأى الشعراء يتهالكون على أبواب الخليفة ، وعلم من أمر الأخطل ما هاج فيه الرغبة بمديح عبد الملك ، عله ينال منه ما ينال غيره من المال الوفير. فأقدم يساعده الحجاج ، إلا أنه لم يستطع الدخول على عبد الملك إلا بعد جهد ، وذلك لأن الخليفة كان يرى في كل شاعر مصري حليفاً للزبيرية . ولما مثل بين يدي عبد الملك أنشده قصيدته التي يقول فيها : 

ألستم خَيْرَ مَن رَكِبَ المطايا وأندى العالمين بطون راح 

وعرض بابن الزبير ، فأجازه عبد الملك وفي مجلس هذا الخليفة اجتمع بالأخطل وقد انتصر عليه الأخطل بقصيدته التي مطلعها وخف القطين 

وارتبط بالوليد بن عبد الملك ووجد لديه الحظوة التي كان يلقاها عند أبيه . وفي ذلك العهد احتدم التهاجي بين جرير وعدي بن الرقاع شاعر الوليد الخاص ، وسبب ذلك تقدم عدي بن الرقاع عند الوليد ثم ما كان من مصرية جرير وقحطانية عدي. وفي آخر عهد الوليد مات الحجاج ففقد جرير بموته ركناً كان يعتمد عليه في العراق. 

على الرغم من مدح جرير لعمر بن عبد العزيز عند توليه الخلافة، إلا أن هذا المدح لم يصل إليه. وهذا يدل على طبيعة ابن عبد العزيز الذي كان، كما وصفه جرير، يولي اهتمامًا بالفقراء على حساب الشعراء، مما يظهر تناقضًا في موقفه من الشاعر.

 وفات جرير

اختلف المؤرخون في تحديد تاريخ وفاة جرير، على أنه في الأغلب توفي سنة ٧٣٣ م / ١١٤ هـ ، وذلك بعد وفاة الفرزدق بنحو أربعين يوماً ، وبعد وفاة الأخطل بنحو ثلاث وعشرين سنة

 أدب جرير

في عام 1935م، شهدت القاهرة صدور ديوان الشاعر جرير عن دار نشر محمد إسماعيل الصاوي. وقد اعتمد المحقق في إعداده على رواية الإمام محمد بن حبيب ومصادر أدبية أخرى، ليكشف لنا عن تنوع أغراض شعر جرير بين المدح والرثاء والفخر والهجاء والغزل.

جرير شاعر النضال السياسي :

كان جرير ذا عصبية مصرية ، وكان شعراء مصر يمالئون ابن الزبير على عبد الملك ابن مروان . ولكن هذه العصبية ما كانت لتوفر لجرير ما كان بحاجة إليه من مال . ففلم يجد بداً من التقرب الى الأمويين. وكان اتصاله بالحجاج الخطوة الأولى في سبيل السياسة إذ جعله الحجاج شاعره الخاص ، ومن ثم شاعر قيس ؛ المدح الحجاج وأشاد ببلاثه في خدمة عبد الملك 

ثم اتصل بالبلاط ومدح بني أمية والولاة والعمال ورثاهم ، ولم يتورع عن التعريض بالأموات استرضاء لهم ، كما فعل بابن الزبير بعد موته ، عندما مدح عبد الملك ؛ ومدح القيسية أعداء تغلب ، كما أنه كان يميل الى المساواة بين العرب والموالي ، ولم يحجم عن العطف على الموالي والفرس، وقد مدحهم وسواهم بالعرب في الشرف.

وهو يحاول أن يرد الخلفاء الى النزارية دون اليمن ، كما يسعى في التقريب بين الخليف وقيس، وبين تميم والحكومة ، فيقول مخاطباً عبد العزيز بن مروان :

 فَإِنَّ تَمِيماً ، فَأَعْلَمَنَّ ، أَخُوكُمُ ومِنْ خَيْرٍ مَنْ أَبْلَيْتَ عَافِية شكرا 

إذا شِئْتُمْ هِجْتُمْ تَمِيماً فَهِجْتُمُ لُيوتَ الوَغَى يَهْصِرْنَ أَعْدَاء كُم هَصْرًا

وكان على آل المهلب مع الأمويين حين ثار يزيد بن المهلب على يزيد بن عبد الملك . وقد لخص أحمد الشايب سياسة جرير بقوله : وكان جرير في عصبيته تميمياً قيسياً ، وكان مع الفرزدق يربوعياً ، وكانت صلته بالخلفاء ترتد إلى هذا الأصل القبلي ، والى أصل آخر نفعي خاص . وقد اضطر الى ذلك لحاجته ، ولاحتواء قيس عليه منذ اتصل بالحجاج، فكان أقل منزلة من الأخطل في السياسة العليا، وكان دون الفرزدق في زعامة تميم ..

– المدح :

جرير في مدائحه لبني أمية وولاتهم وعمالهم مستجد ، وتكسبه صريح .

قال في مدح عبد الملك :أغنني ، يَا فَدَاكَ أَبي وأمي ، بِسَيْبٍ مِنكَ، إِنَّكَ ذُو ارتياح و تكسبه يملي عليه أساليب المدح ومعانيه .

فهو يعظم شأن ممدوحيه ، ويُثبت لهم الحق بالخلافة ، معتذراً عن قومه لميلهم الى آل الزبير؛ وهو يشمل في مدحه حقلي الدنيا والدين . فيصف قوة الخلفاء ومن يعملون في ظلهم ، ويصف سطوتهم كما يصف أعمالهم العمرانية من مثل أعمال هشام في شق الأنهر وغرس الأشجار المثمرة . واذا انتقل إلى حقل الدين أطال القول حتى ليُخيل للقارئ أن المدح ديني أكثر مما هو مدني ،وحتى كأن للخلافة شأناً دينياً لا شأناً مدنياً. 

فتنتشر في مدائحه ألفاظ الخلافة ، والقرآن ، والأحكام ، والأمانة ، والورع ، والهدى، والبركة وما الى ذلك مما يصدر عن نزعة جرير الدينية التي تتمثل في جميع أغراض شعره. فالخلفاء في شعره هم الذين اختارهم الله ، وهم الذين ينسبون الى الفرع النبيل من قريش ، وهم الذين أثبتت الأيام والأحوال أنهم أهل للخلافة والسلطان ؛ وسيف الحجاج هو سيف الهدى والحق ، كما أن هشام بن عبد الملك هو المهدي :

تَعَرَّضَتِ الْهُمُومُ لَنَا ، فَقَالَتْ جُمَادَةُ : أَي مُرْتَحَلٍ تُرِيدُ 

فَقُلْتُ لَهَا : الْخَلِيفَةُ ، غَيْرَ شَكٍّ هُوَ المَهْدِيُّ، وَالحَكَمُ الرَّشِيدُ …

 والمدح يطول عند جرير، مفصلاً صفات الممدوح ، جاعلاً الكرم من أجل الصفات ، وفي هذا المدح يتضاءل ظل الشاعر فلا يفخر ولا يهجو ، إنما يقف موقف المتسول الذي لا ينفخ في شعره المدحي نفس عالي ، ولا يعصف به اندفاع شديد

الرثاء :

رثاء جرير قسمان : قسم خص به أهل بيته كامرأته وابنه سوادة ؛ وقسم خص به بعض رجال الدولة وغيرهم كالوليد ، وابنه عبد العزيز. ولما كان جرير رجل العاطفة الشديدة التأثر كان رئاؤه بمجمله عاطفياً ، رقيقاً ، يؤثر في القلب .

وقد رثى الفرزدق نفسه وحاول أن يقول فيه كلمة حلوة بعدما قال فيه كلماته المرة سنين طويلة ، ومما قال : لنَّكِ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنِّ ، إِذْ تَوَى فَتَلَى مُضَرٍ، فِي كُلِّ غَرْبٍ وَمُشْرِقِ

فتي عاش يبني المَجْدَ تِسْعِينَ حِجَةٌ وَكَانَ إلى الخيرات والمَجْدِ يرتقي

وجرير كان صادقاً في لهفته ، فكانت مراثيه شعر العاطفة المتألمة ، تهيمن عليه النفحة الدينية ، وتتدفق فيه الذكريات التي تبعث الأسف والأسى .

جرير شاعر النضال الأدبي :

تألب على جرير رهط من الشعراء ذكر أسماء كثيرين منهم في حديث دار بينه وبينا لحجاج ، وذكر أنهم هم المعتدون عليه وأنه إنما انتصر لنفسه ، والسبب في ذلك طمع الشعراء ولا سيما الحاملين منهم في أن يشتهروا في شعر جرير. وكان الناس ، ولا سيما الحجاج وهشام ، يعملون على التحريش بين الشعراء المنهاجين للتلهي . وقد أخزى جرير جميع من تصدى له ما عدا اثنين هما الأخطل والفرزدق وسنقصر كلامنا على هجاء

جرير لهذين الشاعرين، ومفاخرته لهما .

١ – الهجاء :

كان الجرير مقدرة عظيمة على الهجاء. فقد اجتمع له الشعور الحاد الذي اذا احتدم يكون كالبركان الهائج ، الذي يقذف الحمم ولا يدرك ما يقول . وإلى هذا الشعور ، وشدة التأثر ، وسرعة الاندفاع ، كان جرير ذا مقدرة غريبة على التهكم والسخر ، وذا بصر نافذ في تتبع العورات واختلاقها ، ه فهو – على حد قول مارون عبود – أدرى الناس بفحص الدمن ، وتحليلها واكتشاف مضامينها ، ووصف ما بهاء . وكان فياض القريحة لا يستعصي عليه جواب ، وإذا ضرب كانت ضربته خاطفة .

أما طريقته في هجائه عموماً فهي طريقة جمعت الى أساليب خصومه أسلوبه الخاص القائم على شدة اللذع والإيلام ، مما لم يجتمع لأحد منهم بقدر ما اجتمع له . فهو يعمد الى طريقة الفرزدق في الإفحاش والإقلاع ، واستعمال كلمات الفجور والبذاءة بصراحة شنيعة ؛ وهو يعمد الى طريقة الفرزدق والأخطل بالتعبير بالانكسارات والمذلة .

إلا أن جريراً لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه الى أسلوب خاص في اللذع يقوم بتتبع حياة المهجو وحياة ذويه ، وتعداد نقائصه والكشف عن عوراته واحدة فواحدة ، ذاكراً تفاصيلها ، مبيناً كل ما من شأنه أن يجعل المهجو موضوع احتقار الناس ؛ وهو يكثر من تعداد النقائص القومية والشخصية ، الماضية والحاضرة ، ويختلق الحوادث والقصص ، ويكثر من التكرار ليثبت ما يقول في الأذهان ، ويبالغ في الزراية والتحقير والتشبيه بالحقير القذر من الحيوانات ، زائداً في القبائح ما تفيض به قريحته ، ممزقاً أعراض الأمهات والأخوات أشنع تمزيق مما يلذع أشد اللذع ؛ وهو يزيد على ذلك كله التهكم والسخرية ، فيجعل المهجو من المضحكات ، ويصوره تصويراً وكاريكاتورياً ، يبعث على الضحك، وهذا مما يزيد كلامه لذعاً ، وإليك إيضاح ذلك في هجو الفرزدق والأخطل .

هجو الفرزق :

يتتبع جرير حياة الفرزدق وحياة قومه ، فيلقبه بابن القين ، وذلك لأن جد الفرزدق كان حداداً ، والعرب تغير بالصناعات، فيحدثه عن القدوم والعلاة والكبير، ويذكر له الأيام والحوادث التي لا تُشرف قوم الفرزدق كخيانة بني مجاشع للزبير يوم الجمل ؛ ويرمي المحصنات بما يشين. حتى إذا انتهى الى حياة الفرزدق الشخصية شبهه بالقرد ؛ ونعى عليه خبثه وفجوره وغيره بفسقه ودعارته ، وحذر

الناس أن يحل فيهم ذلك الفاسق الذي يلحقه الخزي والعار أينما حل : هُوَ الرَّجْسُ ، يا أَهْلَ المَدِينَةِ ، فَاحْذَرُوا مُدَاخِلَ رِجْسَ بِالْخَبِيثَاتِ عَالِم واتهمه بدينه فجعله يوم السبت يهودياً ويوم الأحد نصرانياً. وصوره تصويراً

مضحكاً كما في قوله : ألا إنما كَانَ الْفَرَزْدَقُ ثَعْلَبَاً صغَا وَهُوَ فِي أَشْدَاقٍ لَيْثٍ بَارِم ! لَقَدْ وَلَدَتْ أُمُّ الْفَرَزْدَقِ فَاسِقاً وَجَاءَتْ بِوَزْوارٍ فَصِيرٍ الْقَوَائِمِ

هجو الأخطل :

ويتتبع جرير حياة الأخطل وتاريخ قومه ، ويتسع له المجال فيه أكثر مما يتسع في الفرزدق لأنه من أصل غير أصله وعلى دين غير دينه ؛ فيعيره بما على تغلب

من أيام لقيس عيلان، ويجعل التغلبي عبداً في كل مكان ، تقعد همته عن رفيع الأعمال ومكارم الأمور ، ويمدح بكراً لقتلها كليباً ، ويُعير الأخطل وقومه بالنصرانية والذلة ، ويطعن بالصليب والقديسين ورجال الدين بمضض واحتقار والأخطل في ذلك لا يستطيع أن يُجيبه بالمثل لوجوده في البلاط الإسلامي ولما للخلفاء من صلة بنبي الإسلام . ثم يعير الأخطل وقومه بأكل الخنزير وشرب الخمر والسكر، وما يتبع

ذلك من عربدة وفجور ؛ ويطلق جرير في ذلك قريحته ومخيلته فيختلق ويكذب ما ويلقبه و بدوبل ، وهو اتسع له المجال. ويرمي الحمار الصغير لا يكبر، ويقول : الأخطل بسهام التهكم فيُصغرا اسمه ،

أَلَيْسَ أَبُو الأَخَيْطِلِ تَغْلِبيَّاً فَبِئْسَ التَّغْلِبِيُّ أَبا وَخالَا

ويمثله داعياً مار سرجس وهو قديس تغلب تكرمه وتجعله شفيعاً لها) لكي يبعد

عنه الحرب :

قَالَ الأَخَيْطِلُ إِذْ رَأَى راياتِهِمْ : يا مار سَرْجِسَ لَا نُرِيدُ قِتَالًا

هذا هجاء جرير . وقد كان موجعاً ، مُراً ، كثيراً ما يشمل عدة خصوم ويجعلهم في قرن واحد. وكان جرير كثير الافتراء على الأبرياء ، لا يبالي أن يقذف المحصنات العفيفات ؛ وكان الى ذلك ديناً ، كثيراً ما يستغفر الله من قذف المحصنات ويُقر أمام الناس ببراءتهن، ويعتذر ، ويدعي أن أولياء من ظلموه فجازاهم بما ظلموا . ومن أشهر قصائده الهجائية باثيته المعروفة بالدامغة لأنها دمغت خصمه وقضت عليه قضاء سريعاً ، هجا بها جرير راعي الابل وقومه وبني نسمير على أثر مشاحنة بينه وبين الراعي

وابنه جندل ؛ ومطلعها :

أقلي اللَّوْمَ ، عَاذِلَ ، وَالْعِتَابَا وَقُولِي ، إِنْ أَصَبْتُ : لَقَدْ أَصَابًا !

– الفخر :

الهجاء عند جرير شديد الصلة بالفخر. فهو إذا هجا افتخر ، وجعل من الفخر وسيلة لتذليل خصمه. أما موضوع فخره فنفسه وشاعريته ، ثم قومه ،

وإسلامه. فإذا هجا الفرزدق اصطدم بأصل الفرزدق الذي هو أصله ، فكلاهما من

تميم ، وهو أصل شريف. ولكن الفرع الذي كان ينتمي إليه الفرزدق كان أشرف من فرع جرير ، ولهذا لم يستطع أن يجعل فخره بآبائه موازياً لفخر الفرزدق، إلا أنه فخر ببعض أيام كانت لبني يربوع قومه ، كما أعين على الفرزدق بأيام خُذل فيها بنو دارم قوم