الأخطل
الأخطل

الأخطل

 طفولة معذبة وشباب ناقم الأخطل

الأخطل أشد شعراء هذا العصر اتصالاً بالسياسة العليا لبني أمية ، وهو من ثم أعظم ممثل للحياة الاجتماعية السياسية، فهو أبو مالك غياث بن غوث بن الصلت من جشم بن بكر ثم من تغلب . لقب بالأخطل السلاطة لسانه ، وقد ولد في الحيرة نحو سنة ٦٤٠م. وكان أبوه غوث من وجوه قومه ، وأمه ليلى تعرف بأم كعب . توفيت وهو حدث ؛ فتعرض لقسوة زوج أبيه وكانت تفرض سيطرتها عليه وتسترعيه أعزها وتبخل عليه حتى بالكافي من القوت. فنشأ وفي نفسه صراع عنيف بين العنفوان التغلبي وذل الرعي والجوع ، قاده الى هجاء زوج أبيه . في هذه الفترة عرض الأخطل لكعب بن جعيل شاعر تغلب وأحمله . وقد روي أن ابن جعيل هو الذي أطلق عليه لقب «الأخطل لما رأى فيه من شر إذ كان كثيرالوقوع في أعراض الناس

الأخطل صحافي السياسة الأموية 

بعدما دعا يزيد بن معاوية الأخطل الى هجاء الأنصار اتخذت حياته اتجاهاً جديداً، وأصبحت صلته بالسياسة الأموية ذات معنى جديد. وليست الصلة جديدة ، فإن تغلب بأسرها واقفة الى جانب الأمويين منذ يوم صفين. ولكن هذا الشاعر أصبح منذ هجاء الأنصار لسان الدفاع عن الدولة، وصحافي السياسة القائمة ، كما أصبح رسول قومه لدى الدولة بعامل العصبية القبلية التي عادت الى عنفوانها في ذلك العهد. وكان يعيش في البلاط ناعماً بالحظوة والإكرام، منادماً ليزيد بن معاوية في شرب الخمور ، ملازماً له حتى في الحج الى البيت الحرام.

 وما إن توفي معاوية حتى اضطربت أحوال البلاد ولم يتمكن أبناؤه من السيطرة حيال ابن الزبير الذي دعا لنفسه بالخلافة وأجلى بني أمية من المدينة إلى الشام ، وقام كثيرون من مثل زفر بن الحرث والنعمان بن بشير وغيرهما يدعون لابن الزبير وخلع بني أمية . وإذ ذاك نهض مروان بن الحكم يدعو لنفسه ، فمشى الضحاك بن قيس الى مرج راهط ” تمده القيسية ، وجاء مروان بن الحكم بمن بايعه ، وكانت معركة شديدة قتل فيها الضحاك وانهزمت القيسية ، واستتب الأمر المروان ( ٦٨٣) – ٦٨٥م). وهكذا كانت المعركة انتصاراً لليمن على قيس عيلان وللأمويين على الزبيريين. وفي كل ذلك كانت مصلحة تغلب تتفق ومصلحة الدولة الأموية ، وكانت حروب تغلب تساعد مساعدة فعالة على إقرار سلطان بني أمية ، وكان الأخطل في تلك الغمرة مناصراً لقومه ولبني أمية . وقد نشيت عدة حروب بعد موقعة المرج بين القيسيين بقيادة الجحاف بن حكيم وزفر بن الحرث، والتغلبيين قوم الأخطل وأحلاف السلطة القائمة ، وكان بذلك أفضال لتغلب على العرش الأموي ، وكان الأخطل مسجلاً للأحداث ، مدافعاً عن بني أمية ، مادحاً رؤساء هم وولاتهم ، مؤيّداً حقهم بالخلافة ، قائماً بعمل السفارة لقومه لدى عبد الملك ابن مروان ( ٦٨٥ – ٧٠٥م ) ، وقد قربه عبد الملك ولقبه ، بشاعر بني أمية» و«شاعر أمير المؤمنين» ، وكان له في خلافته أعظم الأثر.

غروب أليم : وما إن تولّى الخلافة الوليد بن عبد الملك (٧٠٥ ٧١٥م) حتى تضاءل ظل الشاعر في البلاط وأصبح هدفاً للخصومة يهاجمه كل حاسد وطامع  وقد استبدل به الخليفة الجديد عدي بن الرقاع شاعراً رسمياً ، وذلك استجابة لدعوة المنافسين والمتزمتين، فنزل الأخطل عن عرش الإمارة الشعرية ، وهجرت لسانه لهجة الإدلال ، وقلت قصائده في الخليفة، وتغير أسلوب القول عنده فأصبح يشكر الأفضال ويشكو ألم النفس في غير عنفوان ولا سلطان . ثم التحق بقومه حيث وافته المنية نحو سنة ٧١٠ م / ٩٢ هـ

أدب الأخطل

للأخطل ديوان شعر انتقل على ألسنة الرواة عصوراً متوالية ، ومن أشهر من رواه ابن الأعرابي ( القرن التاسع ) ثم محمد بن حبيب ، ثم ضبطه ونظمه أبو سعيد الحسن المعروف بالسكري ، ثم أكب عليه الأب أنطون صالحاني اليسوعي درساً وتنقيباً ، وقد عثر على مخطوطة لذلك الديوان في بطرسبورج فنشرها سنة ١٨٩١ ، ثم عثر سنة ١٩٠٥ على مخطوطة أخرى فطبعها مصوّرة على الحجر وأضاف إليها تعليقات وفهارس متقنة ؛ ثم عثر على نسخة ثالثة في اليمن أطلعه عليها المستشرق أوجينيو غريفيني فنشرها متمماً بها النسختين السابقتين ومضيفاً إليها المقدمات والتعليقات والفهارس العلمية الدقيقة . ثم انه وجد في الآستانة نسخة قديمة جداً من نقائض جرير والأخطل فعمل على نشرها سنة ۱۹۲۲ . وأخيراً وجد في طهران نسخة من الديوان ترقى الى سنة ١١٠٥م ، فنشر منها سنة ١٩٣٨ : التكملة لشعر الأخطل . وهكذا اجتمع لدينا شعر الأخطل في ديوان منظم على أسس علمية توحي بالثقة والاطمئنان .

وشعر الأخطل من موحيات البيئة والأحوال التي تقلب فيها ، أنه شعر أراد فيه صاحبه أن يجري على سنة الجاهليين ولاسيما النابغة الذبياني. وهو أخيراً شعر رجل أحب الخمرة وعاقرها زمناً طويلاً ، وأحب أن يدخلها في بعض شعاب الكلام ومناحي النظم. وهكذا كان ديوان الأخطل ذا ثلاثة أقسام كبرى : شعر سياسة أموية ، وشعر عصبية قبلية ، وشعر خمر ووصف والسياسة هي النقطة الدائرة في هذا الديوان تنطق بالمدح والرثاء ، والهجاء والفخر ؛ وأما ما سوى ذلك من خمر ووصف وغزل فعرض يأتي في انفلاتات واستطرادات تطول أحياناً في غير استقلال

شعرالأخطل للسياسة الأموية 

انساق الأخطل الى الدخول في تيار الحياة السياسية بفعل الأحوال التي اكتنفته والجو الذي عاش فيه ، فقد صار العرب في أعقاب صفين أحزاباً متصارعة ، وراح معاوية يسعى في توطيد ملكه وإقراره في بيته ، والحيلولة بين الهاشميين وبينه ، وقد جد في ذلك وسلك له سبل الترغيب والترهيب حتى ظفر بذلك، وتوجه بالبيعة لابنه يزيد ، وبهذا استقرت الحكومة أموية، وأخذت في التاريخ الإسلامي السياسي لوناً جديداً ، هو هذه الهرقلية … وإنا نرى أن الجدال أيام البعثة كان قائماً حول دين أو نظام يبلغ ويوضع ، ولكنه هنا حول دين ونظام يُفسر ويُطبق . كان هناك بين الجاهلية والإسلام، وكان هنا بين الأحزاب الإسلامية كيف تكون الحكومة ، وأين تكون ، ومن هذا الحاكم ؟ وكان الخلاف يبدو إما خالصاً للمذهب والرأي ، وإما متصلاً بالمصالح المادية والعصبيات القبلية ، وكان الشعر صفحة ذلك وأداته ، وكان الأمويون أحرص الناس على الملك، فبرروا في سبيله كل وسيلة ، وكان منهم دهاقين السياسة و أساطينها

 هجاء الأخطل للأنصار

عمل معاوية على إقرار الملك في بيته وعمد الى الترغيب والترهيب ، فقسا على الخوارج، ولان مع آل هاشم ، وترضى الأنصار وأغدق عليهم المال لا يعاد فكرة الخلافة عنهم ، إلا أنهم ما انفكوا ينظرون الى بني أمية نظرة عداء ، وما انفك شعراؤهم يهاجمون أولئك الذين عدوهم مغتصبين مزيفين ، وقد اتخذ بعض شعراء الأحزاب النسيب وسيلة سياسية يغيظون بها الأمويين قشيب عبد الرحمن بن حسان الأنصاري برملة بنت معاوية ، وشبب العرجي بجيداء أم محمد بن هشام وخيرة زوجه ليغيظه ، وتغزل عبيد الله بن قيس الرقيات بأم البنين امرأة الوليد بن عبد الملك وبنت عبد العزيز بن مروان ، فأغاظ عبد الملك وابنه الوليد وأخاه عبد العزيز . وهكذا كانت الخطة تحقيرية . ومما يذكر أن المدينة شهدت صراعاً شعرياً عنيفاً بين عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن الحكم أخي مروان بن الحكم، وقد تهاجيا هجاء مراً . ولكن الأخطا هو وحده تجرأ على هجاء الأنصار عامة وشاعر هم خاصة. وكان هجاؤه السبيل في دخوله البلاط واتصال حياته الشعرية بالسياسة الأموية والقصيدة عنيفة الى حد بعيد، جريئة بقدر الأمان الذي ضمنه يزيد للشاعر والصلة الوثيقة لقبيلة تغلب بالسلطان الأموي ، افتتحها الأخطل بلعنة صبها على رؤوس الأنصار لأنهم في نظره من أصل يهودي وقد ورثوا من ثم لعنة الله لليهود . ثم راح يُعدد مخازيهم وإذا هم جماعة سكر وعربدة وهذا أمر يبعدهم عن روح الإسلام ؛ وقد جد الأخطل في أن يفصل فيما بينهم وبين الإسلام الحقيقي مراعاة للخلافة الإسلامية ، وجد في أن يُبعدهم كل الابعاد عن قريش – والنبوة في قريش وبنو أمية من قريش – وإذا المكارم والعلى في قريش دون سواها ، وإذا اللؤم كل اللوم تحت عمائم الأنصار . وهنا تتغلب النزعة البدوية على الأخطل، وهو ربيب البادية ، فيستمد من تلك النزعة معنى كان الأعراب آخذين فيه ، وهو أن الصناعات اليدوية ترافقها الحقارة. وكان سكان المدن والقرى يعالجون الأرض وما الى ذلك من الحرف التي تبعد العربي – في نظر الأعراب – عن حياة الخرية ومجالات البطولة والشجاعة . 

فالأنصار من المدينة وهم من ثم ذوو مساح ومحاريث ، وهمهم من ثم بعيد عن المثالية البدوية . فيطعنهم الأخطل في ذلك ، ويثير الخلاف القائم بين أهل المدر وأهل الحضر، ويُرضي بذلك البدو الذين كانوا الى جانب بني أمية . ثم انه يهاجم الأنصار مهاجمة تحقيرية فيجعل ظهورهم مطية للفوارس ويقوده ذلك الى جعل شاعر الأنصار جحشاً أبوه حمار وأمه حمارة ؛ ومثل هذه المعاني الغليظة من مألوفات هذا العهد الحافل بالشتائم والبذاءات

وهكذا فالقصيدة مدح ضمني لبني أمية يرفعهم فوق الأنصار ويجعلهم أهلاً للخلافة والسلطان دون الأنصار الذين عمل الشاعر على إلصاق العار بهم وحث الأعراب عليهم. وهكذا ظهرت نزعة الأخطل في شعره السياسي إذ يجعل القصيدة ميداناً واسعاً للمدح والفخر والهجاء؛ إنها حط لشأن الخصم وإعلاء لشأن السلطة الأموية وأخلاقها ، وتقليد بدوي ، وأسلوب جاهلي أموي. وقد بقي الشاعر في هذه القصيدة على باب السياسة الأموية ولم يلجها ولوجاً كاملاً ، فاكتفى بالمعاني العامة ، وأوجز ولم يُسهب ، وأشار ولم يفصل حجيج الأمويين وبراهينهم ، ولم يعدل إلى أسلوب الأحزاب في الجدل والنقاش وما الى ذلك مما سنجده في سائر قصائده ، ومما قال :

لَعَنَ الإِلهُ بَنِي الْيَهُودِ عِصَابَةُ       بالجَزْعِ بَيْنَ جُلا جِلٍ وَصِرَارِ 

قَوْمٌ إِذَا هَدَرَ الْعَصِيرُ رَأَيْتَهُمْ       حُمْراً عُيُونُهُمْ كَجَمْرِ النَّارِ 

ذَهَبَتْ قُرَيْشٍ بِالمَكارِمِ وَالْعُلَى    وَاللُّومُ تَحْتَ عَمَائِمِ الْأَنْصَارِ

 فَذَرُوا الْمَعَالِي لَسْتُمُ مِنْ أَهْلِهَا    وَخُذُوا مَسَاحِيَكُمْ بَنِي النَّجَّارِ … 

وَإِذَا نَسَبْتَ ابْنَ الْفُرَيْعَةِ خِلْتَهُ      كَالجَحْشِ بَيْنَ حِمَارَةٍ وَحِمارٍ ….

کان یمدح الأخطل بني أميةء 

شُغلَ الأخطل بقومه شغلاً اضطره إلى ممالأة الأمويين، ومناهضة القيسيين، وقد انضم الى بني أمية وهم بحاجة الى شعراء ينشرون آراءهم ويردون هجمات أعدائهم ؛ وانضمامه إليهم يعني ، في نظر الجميع ، انحيازاً الى سياسة معينة ، وشعره من ثم هو شعر تلك السياسة ، هو شعر التأييد التام في إطار المدح على سنة التقاليد العربية القديمة ؛ والمدح يوجه الى الخليفة وأنسبائه وولاته وعماله وقواده ، والقصيدة المدحية والحالة هذه هي مجموعة من الأغراض في خط السياسة العليا الواحدة. هي إطراء للأعمال ، وإشادة بالمناقب، وتعال بالفخر على الخصوم وهجاء لهم ؛ وهي بين هذا كله افتتاح غزلي تقليدي ، واستطراد وصفي أو خمري في سبيل الهدف السياسي. ولما كانت العصبية من أهم عناصر السياسة الداخلية كان الشاعر الأموي يخدم السياسة العليا بقدر ما تخدم صالح قومه ، وبقدر ما تدر عليه من مال وتجر إليه من نفع . وهكذا يبدو لنا أن هذا الشعر خاضع للترعات الجاهلية لما لأصحابه من ميل الى الحرية البدوية وتقاليدها ، ولما في نفسهم من كره للنظام الحكومي وقلة الإطمئنان إليه .

مدح عبد الملك بن مروان خاصة والأمويين عامة 

وتسير الأيام وينساق الأخطل مع السياسة الأموية انسياقاً يشتد باشتداد علاقة قومه بتلك السياسة ، وباشتداد صلته بالبلاط ، وقد أصبح الشاعر الرسمي ، ولسان الدولة الحاكمة ، وأصبح شعره صحيفة بني أمية السيارة. فيدخل باب العقيدة الأموية ، وإن لم تكن في نفسه ، ويعمل على نشرها والذود عنها ، في روح حزبية تحاول الإقناع بقوتي القول والبرهان . وقد رأينا كيف أن معاوية جد في إقرار الملك في بيته ، وصير الحكم ملكاً وراثياً، وكيف استعمل الترغيب والترهيب في سبيل هدفه ، وكيف تكونت العقيدة شيئاً فشيئاً لدى الأمويين وفاقاً للأحوال ولما دعت إليه المشادات الحزبية. وخلاصة تلك العقيدة وان هنالك خليفة أموياً هو عثمان الذي قُتِل مظلوماً ، وأهل بيته هم أولياء دمه يمثلهم معاوية ، وأن الأمويين أصلح للحكم، وأقوم الناس بأعبائه ، ومعهم كثرة تؤيدهم ، وأنهم أصحاب مجد قديم يناصي مجد الهاشميين، وأن نتيجة التحكيم في أعقاب صقين كانت في جانبهم ؛ ثم زعموا للناس أنهم وارثو النبي فصاروا بذلك أحق الناس بهذا الملك الإسلامي.

وجد الأخطل في نشر هذه الآراء سواء أمدح يزيد أم معاوية أم الحجاج أم الأمويين عامة ، وأكثر ما اجتمعت له بلاغة السياسة الأموية في قصيدته الشهيرة وخف القطين التي قالها في مدح عبد الملك بن مروان بعد انتصاره على مصعب بن الزبير في العراق ، والتي تعد خلاصة الموقف الشاعر مع الخليفة على أعدائه ولا سيما قيس عيلان . والقصيدة تربو على الثمانين بيتاً ، وفيها أربعة أقسام : غزل تقليدي ، ثم مدح لعبد الملك الأعداء أمة . وقومه ، ثم ذكر لما قدمه الأخطل وقومه من خدمات لعرش بني أمية ، ثم أخيراً هجاء من قيس عيلان وحلفائهم ولا سيما كليب بـ بن يربوع قوم . جرير. ومن روائع

قوله فيها يمدح بني أمية :

حشد على الْحَقِّ، عيافُو الْخَنَا ، أَنْف   إذا أَلمَّتْ بِهِمْ مَكْرُوهَةٌ ، صَبَرُوا ” 

أعطاهُمُ اللَّهُ جَدًّا ، يُنصَرُونَ بِهِ،   لا جد إِلَّا صَغِيرٌ، بَعْدُ، مُحْتَقَرُ

لمْ يَأْشَرُوا فِيهِ، إِذْ كَانُوا مَوَالِيَهُ    وَلَوْ يَكُونُ لِقَوْمٍ غَيْرِهِمْ أَشِرُوا

شمْسُ الْعَداوَةِ ، حَتَّى يُسْتَقَادَ لَهُمْ ،  وَأَعْظَمُ النَّاسِ أَحلاماً إِذا قَدَرُوا 

لا يَسْتَقِلُّ ذَوُو الْأَضْعَانِ حَرْبَهُمُ ،   ولا يُبينُ فِي عِيدَانِهِمْ خَورٌ

هُمُ الَّذِينَ يُبَارُونَ الرِّيَاحَ، إذا  قل الطَّعَامُ على العَافِينَ، أَوْ قَتَرُوا

بَنِي أُمَيَّةَ ، نُعْمَاكُمْ مُجَلَّلَةٌ ،   تمَّتْ فَلا مِنَّةٌ فيها وَلَا كَدَرُ

 

ان القصيدة التي أوردنا قسماً منها هي من أروع قصائد المدح القديم ، ومن أكثر الشعر صلة بنفس العصر وروح البيئة ، وهي أخيراً أجمع قصائد الأخطل لشتى أغراضه وفنونه . نظمها الشاعر وهو في أوج عزّه وعنفوانه ، يوم اشتد النشاط السياسي واجتلاد الأحزاب ، ويوم اشتدت ثورة العصبيات ووقف الأخطل وقومه في وجه المعارضين وقفة صمود حازم مما حمل عبد الملك بن مروان على النداء بأنه «شاعر أمير المؤمنين .

الافتتاح قصيدۃ الأخطل بالغزل التقليدي

افتتح الشاعر قصيدته بالغزل التقليدي ، واحتفل بهذا الافتتاح احتفالاً شديداً ، فأطال غزله ، وتأني فيه تأتي إغراق واستعلاء ، متخيراً فيه المعاني والصور ، مكثراً من الأوصاف، متقلباً في الأدب القديم ليستعين بأفخم الأقوال وأروع الأساليب ، وإذا به يدخل في افتتاحه ذكر الخمرة المعتقة على سنة الأعشى ، ويتتبع الراحلات وأماكن سيرهن على سنة زهير ، ويصف إعراض الغواني عن المشيب على سنة عبيد بن الأبرص، ويلجأ الى التشبيه الاستداري على سنة النابغة ، ويلج عالم نفسه ليوضح ذهولها ، ويندفع وراء المشبه به منوعاً ما استطاع التنويع ، مجسماً ما استطاع التجسيم ؛ وهو يؤكد فكرته تأكيداً ، ويُحكم عبارته الشعرية إحكاماً فريداً ؛ ويضفي على كل ذلك لباس الفخامة والجلال ، وكأني به يريد أن يُشعرنا بالمقام الذي . يحتله ، ويريد أن يكون كلامه الكلام الفصل الذي تنتهي عنده كل مساجلة ، ويقف بجانبه كل إعجاب .

للممدوح وعلاقة تغلب بقوم الأخطل

 ثم تخلص الشاعر الى الممدوح ، وتناول جوهر الموضوع وعالجه بصفته أولاً شاعر الحكومة الرسمي، وبصفته ثانياً حليف بني أمية . وقد هدف أولاً إلى تحقيق ما تقتضيه العصبية القبلية من شاعر بدوي في مشربه وميله ، أي الى تثبيت السلطان الأموي في ولائه لتغلب وانحيازه إليها دون خصومها من القيسية وأحلافها ، ثم هدف ثانياً الى الإشادة بسجايا الخليفة وخلال الدوحة الأموية وإعلان حقها بالخلافة وشرعية سلطانها في روح جدلية تتمشى مع روح العصر وتسفه ادعاءات المدعين ، وتظهر بطلان أقوال المعارضين، وهدف أولاً وثانياً إلى الظهور بمظهر الشاعر الشاعر الذي جمع في ذاته مقدرة الجاهليين والإسلاميين، وروعة الفن التي تسيطر على القلوب والعقول . وقد ضمن مدحه هذا فخراً وهجاء ، ولف كل ذلك بالوصف الذي جال فيه جولات واسعة إرضاء المذهبه الفني، وإرضاء لنزعة الاستعلاء فيه .

للمدح ودعوى بني أمية 

أما المدح فقد راح الأخطل يصوغه بكل ما لديه من وسائل الإتقان ، وراح يضمنه كل ما قيل في هذا الفن قديماً ، وكل ما يمكن قوله في عصر كعصر بني أمية . أما ما قيل قديماً فمعاني الكرم والشجاعة والحزم وما الى ذلك ، وأما ما يوحي به العصر والموقف والسياسة فقضية الخلافة التي تجالدت الأحزاب في شأنها . فالخلافة حق لبني أمية في نظر الأخطل ؛ والله أظفر الخليفة الأموي، لأنه خليفة شرعي ، وهو من ثم خليفة الله وإمام المسلمين ، وإذ كان إماماً حق للمؤمن أن يستسقي به المطر .

 وهذا الخليفة أجمع خلق الله الصفات الخلافة ولا سيما الجود والعظمة والقدرة . وهنا يندفق الأخطل اندفاقة نابغية ، ويعمد كالنابغة الى القرات في جيشان أمواجه ، ويُشتبه به عبد الملك بن مروان، ويتوقف عند المشبه به واصفاً في جلال وإحكام ، ثم يعود الى المشبه ويعدد أعماله المجيدة ، ومناقب سيطرته الفريدة ، ثم ينتقل إلى الدوحة الأموية وإذا هي من أصفى ما في قريش ، وإذا هي أمجاد إثر أمجاد، واحتشاد على الحق، وترفع عن الدنايا ، وصبر على الملمات ، وتواضع في موكب العظمة ، وجود يباري جود الرياح ، وقسوة على العناد ، وحلم عند المقدرة.

وإذ كان الأمر كذلك كان بنو أمية أحق الناس بالخلافة ، بعد أن شرفهم الله ، وأعلن حقهم في يوم صفين، ونصرهم على جميع أعدائهم. قال شوقي ضيف : وان الأخطل في مديحه لعبد الملك كان يحاول جاهداً أن يجدد المديح في الشعر العربي تجديداً يتلاءم مع عصره ، وقد لمسنا هذا التجديد في الصورة التي اقتبسها من النابغة. وليست المسألة في رأينا مسألة صورة مفردة ، فإنّ من يتأمل هذا المديح يلاحظ أنه اختلف في صورته العامة عن مديح الشعراء في الجاهلية، لسبب بسيط ، هو أننا أصبحنا بإزاء موقف في الحياة يختلف عما كان عليه الشأن قديماً ، فقد أصبح للعرب دولة ، أو بعبارة أدق، خلافة ، وأصبح لهم جيش منظم. ومن هنا اختلف موقف الشاعر الأموي عن زميله الشاعر الجاهلي ، حتى ولو كان مسيحياً كالأخطل ، فإننا نراه يمدح عبد الملك الخليفة ، ثم يمدح عبد الملك نفسه في خلقه وشخصيته ، ثم يمدح عبد الملك القائد ، ثم يمدح عبد الملك سليل الأسرة الأموية

الفخر

وأما الفخر فهو امتنان الشاعر على الأمويين بموقفه معهم من الأنصار ، وهو نصح للخليفة في سبيل تغلب ، وتحذير من القيسية وزعيمها زفر بن الحرث ، فالقيسية عدو أزرق للخلافة ولتغلب ، وتغلب أحق بأن تقرب وبأن يراعى جانبها وهي التي ناصرت الأمويين يوم المرج ، وهي التي قتلت عُمير بن الحباب يوم الحشاك ، وهي التي عملت على إقرار سلطان بني أمية ؛ فلترحل قيس عيلان إذن عن الجزيرة ” ! وبهذا ينتقل الشاعر الى هجاء قيس عيلان عامة وسليم خاصة . والهجاء كذلك سياسي موجه الى عدو مشترك يرميه الأخطل بالضلالة وخلق الضجر والتقلب والتلون ، ثم بكفر النعمة حتى أبعد من الجزيرة وأصبحت سنجار والبلاد المجاورة لها خالية منه ومن لومه ؛ ويرمي الأخطل بني كليب بن يربوع قوم جرير بالخمول والفاحشة والبخل والذل حتى أقسم المجد أن لا يحالفهم

الأخطل شاعر أمير المؤمنين

 تلك قصيدة الأخطل وهي ، ولا شك، من أروع المدح السياسي، وليس بالمستغرب أن يقول عبد الملك لصاحبها بعدما أنشدها : « ويحك يا أخطل، أتريد أن أكتب الى الآفاق أنك أشعر العرب . فقال الأخطل : أكتفي بقول أمير المؤمنين. فأمر عبد الملك له بحفنة كانت بين يديه ، فمكنت دراهم ، وألقى عليه خلعاً ، وخرج به مولى لعبد الملك على الناس يقول : هذا شاعر أمير المؤمنين ، هذا أشعر العرب.. والأخطل في هذه القصيدة ذو إدلال على البلاط يتجلى باللهجة العالية ، والهجوم الصاعق على الأعداء وإن سعى عبد الملك في تقريبهم واستمالتهم ، ويتجلى أيضاً ببسط الشاعر ما له ولقومه من أفضال على الدولة ، وبالمطالبة الصريحة ، وبالموقف العنيد، وبالجرأة في إدخال الحمرة كعنصر أساسي من عناصر الشعر الرسمي في بلاط إسلامي . أضف الى ذلك أن القصيدة من أروع القصائد القديمة حبكاً وبناء على تعدد الفنون فيها ، ومن أشد الشعر إحكاماً وإكمالاً للمعنى وتحديداً له بكثرة الصفات والصور . وهكذا استطاع الشاعر أن يكون فيها شاعر السياسة القائمة ، وشاعر العصبية القاسية، وشاعر التقليد الشخصي ، والنبوغ الفريد.

 نقائض الأخطل وجرير 

 يُروى أن الأخطل لما بلغه تهاجي جرير والفرزدق أرسل ابنه مالكاً إلى العراق ليأتيه بخبرهما ، فقال له : إنْحَدِر إِلَى العِرَاق حتى تَسمَع منهما وتَأْتِيَنِي بِخَبَرِهما . فَانْحَدَرَ مَالِكُ حَتى لَقِيَهما وَسَمِعَ مِنهما، ثم أَتٰى أَبَاه. فقال له كيف وَجَدْتَها وجدت جريراً يغرف من بحر ووجدت الفرزدق ينحت من صخر . فقال الأخطل : اَلْذِي يَغْرِفُ مِن بَحْرِ أَشْعُرِهما . وفَضل جريراً على الفرزدق . فلما قدم الأخطل على بشر بن مروان أخي الخليفة في الكوفة سنة ٦٩١ م . بعث إليه قوم الفرزدق بهدايا وقالوا له : لا تُعِنْ عَلَى شَاعِرِنا وَاهَجَ هذا الكلب الذي يهجو بني دارم ، فإنك قدقضيت على صاحبنا ، فقل أبياتاً واقض لصاحبنا عليه ففعل ، وقال : 

أجريرُ إِنَّكَ وَالَّذِي تَسمُو لَهُ    كأسيفة فَخَرَتْ بِحِدْج حَصَان “

فرد عليه جرير، ومنذ ذلك الحين اشتعلت نار العداوة بين الشاعرين . وصادف أن بني كليب بن يربوع قوم جرير كانوا من أحلاف الزبيرين مع قيس عيلان على بني امية ، فاصطبغ هجاء الأخطل لخصمه بصبغة السياسة الفردية، والسياسة القبلية و السياسة الأموية .

وهجاء الأخطل يأتي عادة بعد المدح أو بعد مقدمات غزلية وفخرية ، ويدور حول التعيسير بالبخل وهتك الجيرة ، ووصف الهزيمة وما لحق الخصم من مذلة وصغار ، وتفنيد الأقوال. وكان هجاؤه دفاعياً أكثر مما كان هجومياً ، ومؤلماً من غير فحش ، يطعن بالقبيلة أكثر مما يطعن بالفرد .

 شعر الخمر والوصف 

1 – الوصف عموماً : لا شك أن شعراء العهد الأموي كانوا مقلدين لشعراء الجاهلية على ما ظهر في عصرهم من رقي اجتماعي ، وتجلى تقليدهم بنوع خاص في الوصف ، فوصفوا البيئة الصحراوية الجاهلية، وتحدثوا عن الأطلال ، وتوقفوا عند الإبل ووحوش القفار، واستعاروا لتلك الأوصاف معاني الجاهليين وصورهم ، وتوغلوا في مادية الجاهلية، واستدارتها التشبيهية، واستطراداتها القصصية ، وذهلوا عن ذاتيتهم الأموية ، فعبروا عن معاني ذهنية لم يقتبسوها من تجاربهم ، ولم يتفاعلوا معها ، ولذلك كان وصفهم شكلياً ، أو قل أسلوباً كلامياً ، ولم يكن شيئاً من ذاتهم ينبض بحياتهم ، ويندفق من عوالم نفوسهم المنفعلة . وقد عرض الأخطل للوصف، شأن سائر الشعراء في عصره ، بل أكثر منه في تضاعيف قصائده ، فوصف حيوان الوحش تمشياً مع سنة التقليد، وبسط بعض مشاهد الفرات محاكاة لمذهب النابغة الذبياني، وجرى على أسلوب التصوير الحسي الدقيق والاستدارات القصصية ؛ وكان الوصف عنده مجالاً للمحاكاة الاستعلائية ، ولوناً من ألوان المفاخرة بالمقدرة الشعرية على سنة ، الفحول

الخمرة

وأشهر ما اشتهر به الأخطل في هذا الباب وصف الخمرة ، وقد حفل ديوانه بالشعر الحمري ، إلا أنه لم يأتِ مستقلاً بل دس في قصائد المدح والهجاء ، والأخطل من عشاق الحمرة يجعلها رفيقة حياته ، وطاردة همومه وأشجانه ومثيرة خواطره ونجية روحه ، وهو يشربها في كل حال ، يشربها على انفراد ويشربها في عصبة من الإخوان وهو يشرب الحمرة في غير قصد ولا اعتدال ويصفها أيضاً في غير إيجاز ، وإذا هي بيسانية سليلة أصل شريف ، يُعل بها الساقي ليجود بها في سخاء ، ويقدمها في فراهة ومرح ، والساقي يستخرج شاصياتها من مكامنها وهي قديمة العهد ، قد اسودت لقدمها وملازمتها التراب حتى أصبحت أشبه برجال من السودان عراة ، وانه ليجرها جراً لعظمها وضخامتها . ويصب الساقي الحمرة في الإناء وإذا هي سحر يصب في إناء ، أو هي بالحري، لاضطرامها واحتدامها ، جذوة تتأكل ، فتمتد الأيدي إليها من هنا وهناك ، من يمين وشمال ، وتمتد بقوة واندفاع ، وإذا الأيدي ترفع كأساً وتضع كأساً والأفواه تردد : « اللهم حي ! ،

 ولئن كانت فترة هدوء فما ذلك إلا للإصغاء الى غناء ، أو لتناول شيء من شواء مرعبل، وما هي إلا فترة من زمان حتى تتصل الحمرة بالنفوس ، واذا هناك ارتياح وطيب ونشاط وكبرياء ، وخمرة تدب في العظام دبيب تمال في نقاً يتهيل ، فيطلب الشاعر والحالة هذه أن تمزج الخمرة بالماء وقد تكون إذ ذاك أطيب وألذ وقد تكون أقل عملاً في النفوس ، ولا سيما وقد سكر من سكر ، ولا سيما وقد سقط على الأرض صريع مدام وراح الندامى يرفعون رأسه في حنان وعطف ، وقد ماتت عظامه ومفاصله .

وعنى الأخطل في شعره الخمري بالإكثار من الصفات ، كما عني بتتبع معاني من سبقه والأخذ بها ، وتوسيعها في غير جدة ، وهمه الأكبر أن ينقل بطريقة محسوسة لا أن يُعالج الخوالج النفسية ، همه أن يتكلم على الحمرة ، وأن يقول كل ما يعرف عنها ، لا أن يقيم الصلة العميقة بينها وبين نفسه ، همه أن يكثر من القول والتشبيه والتصوير والقصص والمغاليات الساذجة بحيث يتفوق على غيره في مادة التفصيل والتجزيء ، في كمية ما يقال ،

 فأضاف إلى ما قبل ما أوحت به تجربته ، وما أوحى به الإجمال الذي سبقه إليه من سبقه، وهذا كله قلما يتخطى حدود الكم الى عالم الذات حيث المعضلات الإنسانية والعقد النفسية التي هرب منها الشاعر القديم أو لم يستطيع التغلغل إليها لقصر إمكانات القوى الإدراكية والتحليلية عنده . قال من قصيدة مدح فيها خالد ابن عبد الله بن أسيد الأموي :