ابن المقفع

ابن المقفع

ابن المقفع هو أحد أبرز الأدباء والكتاب في العصر العباسي، اشتهر بذكائه وحنكته، وترك بصمة واضحة في الأدب العربي. كان له دور كبير في نقل الحضارة اليونانية إلى العالم العربي، وأسهم في تطوير النثر الفني

هو أبو محمد عبد الله روز به بن داذويه المعروف بابن المقفع . ولد بقرية جور من بلاد فارس سنة ٧٢٤ م / ١٠٦ هـ ، ونشأ فارسياً يسعى في تحصيل ثقافة الفرس ، كما نشأ زرادشتياً يتبع مراسيم ذلك المذهب في إيمان وأمانة ، وما إن شب حتى انتقل الى البصرة واحتك فيها بالعرب والثقافة العربية وإذا هو فارسي صميم ، كما هو عربي مقيم ، واذا هنالك مزيج غريب من عقلية فارسية وعقلية عربية ، ولغة فارسية ولغة عربية ، وثقافة فارسية وثقافة عربية ، واذا هنالك شباب من أناقة ورفعة وإباء ، وعقل ولا كالعقول ، يجول في جميع الميادين، ويتنقل على أكتاف الأيام والسنين من القديم القديم الى الجديد الجديد ؛ وقلم سيال يرافق العقل الكبير، ويكتب بأسلوب عربي فارسي، في لغة سمحة ، وتفكير عميق ؛ واذا هنالك صيت يتعالى وينتشر فيستميل الأنظار والقلوب . وما هي إلا مدة وجيزة حتى استدعي ابن المقفع الى كرمان يكتب لعمر بن هبيرة ، ثم ليزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق من قبل مروان الأموي..عندما قامت الدولة العباسية، اتصل ابن المقفع بعيسى بن علي، عمّ السفاح والمنصور، وكان واليًا على الأهواز. فأسلم على يديه وكتب له. ولقي حتفه في عهد أبي جعفر المنصور سنة 759م، عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين. أما أدبه، فقد وثلاثون سنة

أدب ابن المقفع

أ – أهم آثاره لابن المقفع آثار عدة عرف منها:

-١. كليلة ودمنة : طبعاته كثيرة أشهرها طبعات الأب شيخو، وخليل اليازجي، ودار المعارف بمصر، ودار الأندلس ببيروت. وقد أخرجت دار المعارف الكتاب إخراجاً علمياً وفنياً ذا قيمة كبيرة، وحاولت دار الأندلس أن تخرجه إخراجاً علمياً أيضاً فكانت المحاولة حسنة .

٢ – الأدب الصغير

٣. الدرة اليتيمة أو الأدب الكبير

٤ – كتاب التاج

ه. رسائل ابن المقفع وأشهرها رسالة الصحابة

ب – نزعات عامة – رسالة الصحابة.

١.  أدب إصلاح

فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخرى، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل بلغة . . وهكذا أراد أن يكون حكيماً وأن يجعل التوازن بين النفس والجسم وسيلة من وسائل البلوغ الى الكمال الإنساني الذي نَشَدَهُ بكل جوارحه ، والذي بناه على أساس طبيعي . وهذا الكمال الذي أقام عليه شخصيته ، أراد أن يقيم عليه مجتمعه ، فوضع له كتباً شتى كان أشهرها كليلة ودمنة ، والأدب الكبير ، والأدب الصغيرة، ورسالة الصحابة

٢- تشيع فارسي :

والجدير بالذكر أن ابن المقفع عاش في طور انتقال من عهد بني أمية إلى عهد بني العباس، وكان فارسي النزعة والذي تعلمه أن نقمة المسلمين الأعاجم على العنصر العربي كانت لذلك العهد شديدة كل الشدة ، وأن جماعات متباينة نشأت لا يجمع فيما بينها إلا نقمتها على السلطة الحاكمة ، وأن تلك الجماعات التفت حول الشيعة المضطهدة ، فاعتنق التشيع أقوام لم يتمكن الإسلام من قلوبهم ، وانتشروا في مختلف أنحاء الدولة ، وقد أدّى ذلك الى تطور في المعتقد ، وانضم الى هذه الحركة عناصر مسيحية ويهودية ، وانتقلت إدارتها من العرب الى الموالي ، فحل التنافر الطبقي محل التنافر العنصري ، وأصبح التشيع مذهب المظلومين والمحرومين الثائرين على السلطة ” .

العباس وإن ثورة عقلانية 

ومن ثم يتضح لنا أن شعوبية ابن المقفع اتخذت طريق التشيع ، فأظهر مع الموالي ميله الى بني لم يكن قلبه معهم ، وكان علوي السياسة ، فارسي النزعة ، يدين بالإسلام ظاهراً لا باطناً ، ويأخذ بالتقية في ما يعمل وفي ما يقول ، ويسعى القلب وجه الحكم عن طريق العقل والفلسفة القديمة بطريقة أكلكتيكية أي تخيرية. وهذا كله من طلائع الحركة الشيعية التي أخذت منذ ذلك الحين وبعده بقليل تنقسم فرقاً ، وتميز بين الباطن والظاهر ، وتكب على الفلسفة والعلوم لتنشيء أمةً جديدة ذات نظم اجتماعية وسياسية جديدة . وهكذا نفهم السبب الذي لأجله انتشرت آراء ابن المقفع في كتب رجال التشيع والإسماعيلية من مثل المتنبي ، وأبي العلاء المعري، وإخوان الصفاء وغيرهم ، وهكذا نفهم أيضاً السبب الخفي الذي لأجله اضطهد ابن المقفع وقتل شر قتلة سنة ٢٧٥٩ .-

رسالة الصحابة 

وإن من طالع رسالة الصحابة ، وقرأ ما بين سطورها لمس الروح الفارسية الشيعية مسيطرة عا عليها . وقد وقف فيها الكاتب موقف المصلح الذي لا تفوته شاردة ولا واردة ، المصلح الذي يُعلِّلُ أسباب الداء و ويقدم الدواء ، وذلك – تقية ولين تحفظ ، فالسلطة مريضة ولا بد لها . كله في ا من انتفاضة ، وهذه الانتفاضة ! لا يصرح بها ، وهي في نظر وعيه الباطن دولة جديدة قائمة على العقل النير العادل ، يسير بها إمام عادل الى الغاية المثلى

وبطانة الخليفة مريضة

 ، والدواء حسن الاختيار على أساس الدرس والنظر والاختبار من جهة الخليفة ، وعلى أساس الكفاية من جهة رجل البطانة . والقضاة مرضى النفوس والبصائر ، يحكمون بما لا يعلمون ، فيخلقون جواً من الفوضى ؛ والدواء أن يجمع الخليفة العلماء من فقهائه ويضع قانوناً عاماً يجمع جميع الأحكام، فيتمشى عليه القضاة في غير التواء . والجند مرضى القلوب والجيوب : إنهم ميالون الى اللين والزهو ، وميالون الى قبول الرشوة ؛ والدواء تعليم الجند وتهذيبهم وإبعادهم عن لين العيش وعن الخراج، وإعطاؤهم الرواتب والأعطيات في حينها. والجباة وعُمَّال الحراج مرضى : إنهم يظلمون وينهبون ؛ والدواء تحديد الأملاك ونشر قانون الضرائب على الناس أجمعين حتى يعرف كل إنسان ما له وما عليه ، فلا يكون عرضة لأطماع الطامعين وظلم الظالمين….

وأخيراً يصل ابن المقفع الى موضوع يستقيه من فكرة الشيعة ، ويقدمه في لباقة عجيبة . فالناس في حاجة الى من يهديهم سوي السبيل ، الى إمام ينير، قال ابن المقفع : « وقد علمنا علماً لا يخالطه شك أن عامة قط لم تصلح من قبل أنفسها ، وأنها لم يأنها الصلاح إلا من قبل إمامها ، وذلك لأن عدد الناس فيضَعَفَتِهِم وجها لهم الذين لا يستغنون برأي أنفسهم ، ولا يحملون العلم ، ولا يتقدمون في الأمور. فإذا جعل الله فيهم خواص من أهل الدين والعقول ، ينظرون إليهم ويسمعون منهم ؛ واهتمت خواصهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليها بجد ونصح ومثابرة وقوة ، جعل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم ، وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم

إن حاجة النخبة إلى الإمام القادر على إصلاحهم وتوجيههم أكبر بكثير من حاجة الجماهير إلى هذه النخبة. فالإمام هو الذي يهدي أمرهم، ويكبح جماح المعارضين لهم، ويُوحّد كلمتهم، ويُبرز مكانتهم بين الناس، ويسلحهم بالحجة والبراهين في مواجهة من يحاربهم.

وان في هذه الآراء لنواة صالحة لما سيفصله الفارابي بطريقته الخاصة ، وان فيها ولا شك أثراً للتيارات الفكرية الإغريقية التي ستجتاح البلاد العربية في عهد المأمون وما بعده ، والتي كانت منتشرة في الشرق منذ عصور

والذي نلاحظه من نظرتنا الوجيزة الى أدب ابن المقفع أنه أعجمي الفكرة ، أعجمي النزعة ، يكتب في العربية وهو يتجاهل ما فيها من آثار ، ويعتمد العقل دون الدين في ما يكتب فيجمع من التاريخ وأقوال الحكمة ما هو بعيد عن الدين من غير أن يناقض الدين

ابن المقفع كليلة ودمنة

أ – حكمة في ثوب خرافة

كتاب كليلة ودمنة، ينطوي على حكايات وأقاصيص خرافية على ألسنة البهائم والطير. وهذه البهائم والطير تمثل الحياة البشرية في نواحيها المختلفة ، وفيها من النزعات والأهواء والتيارات الفكرية ما نجده بين البشر في مختلف تلاوينه ومنعرجاته ؛ وفيها أرباب الجدل والفقه والمنطق وعلم الاجتماع والسياسة ؛ وفيها الأخيار والأشرار والمحسنون والمسيئون. ومن ثم فالكتاب هو حياة مصغرة ، هو الميدان الوسيع في صفحات . وهذه الحياة الممثلة المصورة بطريقة خرافية ، تجري موزونة بميزان الحكمة، وشرع الطبيعة المستقيمة ، وحكم العقل الذي يميز بين الخير والشر، وبين الاستقامة والاعوجاج ، ويسن الدساتير في هدوء علمي، وفي صرامة القضاء المسيطر على كل موجود

فالكتاب إذن مبني على المثل الخرافي ، وهو مصدر بعض أبواب تنطوي على مقدمات عامة في أصل وضع الكتاب وشرح أحوال برزويه الطبيب وما الى ذلك مما له علاقة بترجمة كلية ودمنة وموضوعه . وهو يسير على طريقة أساسها السؤال والجواب . أما السؤال فمن ملك هندي اسمه دبشليم لا يُعرف زمن وجوده ، وأما الجواب فمن فيلسوف حكيم اسمه بيدبا 

أما دبشليم فرجل متعطش الى معرفة الحكمة وسياسة البشر، وهو رمز لكل ملك في كل مكان وزمان ، وهو يوجه الأسئلة عن طريق الاستجواب والاستعلام في كل ما يريد المؤلف أن يبسط البحث فيه . وأما بيديا فرجل الاطلاع الواسع الهادئ الذي لا يخشى سلطاناً ولا يعرف المحاباة ، رجل الحقيقة التي يعرفها ويريد نشرها في لين وسياسة ؛ وهو يُجيب أبداً في رصانة وبعد نظر ومعرفة عميقة لطبائع الناس وطباع الحيوانات ، ويجعل جوابه مثلاً يفصله في باب كامل من أبواب الكتاب ، ثم يدخل في هذا المثل الأكبر أمثالاً صغرى يستشهد بها أبطال القصص على صدق ما يقدمون من آراء، وهكذا تأتي الأمثال مركبة تركيباً وثيقاً متداخلة تداخلاً يُجبر القارئ على تتبع الباب من أوله إلى آخره بحيث لا تفوته حكمة . وقد تتبع بيدبا هذه الطريق تمشياً على عادات الهنود خصوصاً والشرقيين عموماً ، ورآها الطريقة المثلى التي تصل الى غايتها في سياسة ولين وتفكيه ، والتي لا تجرح العنيد إذا قبحت له عناده ، ولا تسوء الظالم إذا كشفت له عن سوء ظلمه … قال ابن المقفع : وإذا جُعِلَ الكلام مثلاً كان ذلك أوضح للمنطق، وأبين في المعنى، وآنق للسمع ، وأوسع الشعوب الحديث

وهكذا كان كتاب كليلة ودمنة أبواباً أبواباً ، وفي كل باب أمثال ضمن أمثال . وهكذا كان كل باب يبتدئ بسؤال من دبشليم ملك الهند يتبعه جواب بيدبا الفيلسوف وهكذا كان في كل باب موضوع مطروح للبحث ، منظور إليه من مختلف نواحيه عن طريق التمثيل ، يبين حسناته وسيئاته شخوص حيوانية المظهر بشرية الحقيقة ، يُحقق بعضها حكمة الموضوع فيحسنون ويكافأون ، ويتهاون بعضها الآخر في التحقيق فيسيئون وينالون جزاء أفعالهم . 

فباب الأسد والثور يمثل السلطة العليا، ويصور الحياة في البلاط وما يضطرب فيها من مكايد وسعايات ، ثم يُصور الملوك في سياستهم الداخلية وما يعتورها من نقص في اختيار الأعوان وفي توزيع الأعمال وتصديق الأقوال وما الى ذلك مما يقود الملك الى الانهيار والبلاد الى الهلاك والدمار ، وهو يعالج كل داء بأقوال الحكماء كما يعالج بالتمثيل وتقديم الحجج والشواهد. وباب الحمامة المطوقة يعالج قضية الصداقة ويبرهن أنها ممكنة بين المتباعدين في الطبيعة كالجرد والحمامة بشرط أن يكون هنالك إخلاص وتضحية. وهكذا سائر الأبواب .

أما اسم الكتاب فهو مستقى من البابين الأول والثاني من أبوابه حيث يدور القصص حول اثنين من بنات أوى اسم الواحد كليلة واسم الآخر دمنة ؛ والبابان هما باب الأسد والثور وباب الفحص عن أمر منة

ب – أصل الكتاب ونقل  الى العربية 

اختلف المؤرخون والنقاد مدة من الزمن في شأن واضع كتاب كليلة ودمنة. فذهب البعض من أمثال محمد كرد علي صاحب و أمراء البيان الى أن الكتاب من وضع ابن المقفع نفسه ، وتبعه في هذا الرأي

طائفة من المؤرخين والنقاد معتمدين ، في ما ذهبوا إليه ، على أن ابن المقفع قادر أن يقوم بمثل هذا العمل ، وعلى أن في الكتاب روحاً إسلامية بينة ، وعلى أنه لا يوجد في الهندية كتاب باسم كليلة ودمنة … وذهب البعض الآخر إلى أن الكتاب مترجم بشهادة مترجمه نفسه ، ثم بشهادة التاريخ نفسه منذ عهد ابن المقفع الى يومنا هذا ، ثم بشهادة ما في النسخ القديمة للكتاب من آثار واضحة للترجمة من مثل التعقيد أحياناً ، والتركيب الأعجمي أحياناً أخرى ، ثم بشهادة الأصول الهندية التي عثر عليها العلماء وردوا إليها أكثر أبواب الكتاب . وهذا الرأي الأخير أصبح اليوم لا يقبل الرد . فيكون ابن المقفع مترجماً عن الفارسية مع بعض التصرف أحياناً مراعاة لمقتضى الحال 

وقد ثبت اليوم أنه من أصل هندي تُرجم الى الفارسية ونقله ابن المقفع لما رأى فيه من قيمة اجتماعية وسياسية ، ولا سيما في مطلع العهد العباسي يوم كان السلاطين ذوي شدة وبطش ، وأراد بذلك – على ما زعم البعض – أن يقف من أبي جعفر المنصور موقف بيدبا من دبشليم ملك الهند. وهكذا نقله ابن المقفع من الفارسية كما نقل منها أيضاً عدداً من كتب أرسطو ومن تواريخ الفرس.

والكتاب ينطوي على عالم من المعاني حتى عُد من كنوز الحكمة المشرقية . وقد تناول موضوعات شتى لا يمكن حصرها في مجال ضيق كهذا ، ولذلك لزمنا جانب التخير فاقتصرنا على أدب الملوك ، وأدب الرعية ، وأدب النفس ، وأدب الصداقةم

ضمون ابن المقفع

  أدب الملوك

لا يخفى أن النظام الملوكي كان شائعاً في العصور القديمة ، وأن الملك كان محور البلاد وقاعدة الأمور، وبيده السلطة التشريعية ، والسلطة القضائية ، والسلطة التنفيذية . وكان صلاح العباد بصلاح الملك ، ولهذا اهتمت الفلسفات القديمة ولا سيما الشرقية منها، لتوجيه الناس في اختياره ، كما اهتمت لتوجيه الملك توجيهاً يضمن سلامة البلاد، وهناءة العباد ، ولا عجب من ثم في أن نرى كتاب كليلة وهو خلاصة حكمة المشرق – بخص الملوك بقسم وافر من تعاليمه . ودمنة .

ورأس صفات الملك أن يكون حسن السيرة ، ولكي يكون حسن السيرة عليه أن يملك نفسه أولاً ، ومتى ملك نفسه استطاع أن يملك العالم . ولكي يملك نفسه عليه أن يعرفها حق المعرفة ، ومن ثم فالعلم هو الأساس ، والعلم من عمل العقل ، والعقل أشرف ما في الانسان . ولهذا ترى في الكتاب محلاً رفيعاً للعقل ، بل ترى كل شيء قائماً على النزعة العقلية . جاء في كليلة ودمنة : لا يفرح عاقل بكثرة ماله ، ولا يحزن القلته ، ولكن الذي ينبغي أن يفرح به عقله وما قدم من صالح عمله ، . ” . وهكذا يستطيع أن يكون حسن السيرة وحسن السياسة ، فلا تكون سيرته وسيرة بطر وأشر وفخر وخيلاء وعجب وضعف رأی

ومتى ملك العاهل نفسه كان ذا عهد ووفاء. وقبحاً للملوك الذين لا عهد لهم ولا وفاء ، وويل لمن ابتلي بصحبتهم، فإنهم لا حميم لهم ولا حريم ، ولا يحبون أحداً ولا يكرم عليهم ، إلا أن يطمعوا عنده في غناء فيقربوه عند ذلك ويكرموه . فإذا قضوا منه حاجتهم فلا ود ولا حفاظ ، ولا الإحسان يجزون به ، ولا الذنب يعفون عنه ، الذين إنما أمرهم الفخر والرثاء والسمعة ، الذين كل عظيم من الذنوب يركبونه ، وهو عندهم صغير حقير هين

متى ملك العامل نفسه كان حليماً عاقلاً متأنِّيا عند الغضب ، وابتعد عن ومتى ملك العاهل نفسه كان حليماً عاقلاً ، متأنياً التجبر والظلم واتصف بجميع الصفات التي تجعله أهلاً للحكم ، وتجعل الحكم في يده طريقاً إلى إسعاد الرعية. وهكذا يمكنه أن يسوس الناس ويعنى بشؤونهم. وعليه عند ذلك أن يجعل عنايته شطرين : شطراً للداخل، وشطراً للخارج . فتكون سياسته الداخلية سياسة سهر وفطنة ، وذلك في اختيار الأعوان ، وتحصين المملكة بالجند، وتحكيم الاستقامة، ورفع لواء العدل وما الى ذلك. إن أكبر ما يضر بالناس عامة والولاة خاصة هو حرمانهم من مساعدة الصالحين من الوزراء والأصدقاء، ووجود وزراء وأصدقاء غير أمناء ولا أكفاء. ومن واجبات الملك أن لا يكره أحداً على عمل ولأن المكره لا يستطيع المبالغة في العمل ، وأن يراعي في إسناد الأعمال الكفاية والميل في من يسندها إليهم، وأن يتفقد العمال والأعمال بنفسه حتى لا يكون ألعوبة في أبدي الوشاة والمفسدين ، وأن يستشير لأن الملك شورى في نظر ابن المقفع : الملك المشاوِرُ المُؤامر يُصيب في مؤامرته ذوي العقول من نصحاته ، من الظفر ، ما لا يُصيبه بالجنود والزحف وكثرة العدد. فالملك الحازم يزداد بالمؤامرة والمشاورة ورأي الوزراء الحزمة ، كما يزداد البحر بمواده من الأنهار . . ومن واجبات الملك في سياسته الداخلية أن يُحصن أسراره : و يصيب الملوك الظفر بالحزم والحزم بأصالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار

وأما السياسة الخارجية فهي سياسة اللين والسلام : « ذو العقل يجعل القتال آخر حيله ، ويبدأ بما استطاع من رفق أو تمحل ولا يعجل ، و إذا كان وزير السلطان يأمره بالمحاربة في ما يقدر على بغيته فيه بالمسالمة فهو أشد من عدوه له ضرراً . . أما السفراء بين الدول فيجب اختيارهم بكل اعتناء ، وعلى الرسول أن يكون ذا لين ومؤاتاة : فإن الرسول يلين القلب إذا رفق ، ويُخشن الصدر إذا خَرِق .

وإنه ليضيق بنا المجال لو أردنا تتبع كتاب كليلة ودمنة ، في موضوع السلطان الذي يستغرق القسم الأكبر من فصوله . وفي ما ذكرنا إشارة الى ما لم نذكر. وإن من يقرأ الكتاب ويتلمس فيه روح ابن المقفع يخرج بفكرة واضحة عن نزعة التشيع المتغلغلة فيه، وعن الصلة الوثيقة ما بين العقل الهندي الإغريقي والعقل العربي المتشيع .

 أدب الرعية

تواجه الرعية في الملوك إحدى حالتين : إما حالة عدل واستقامة ، وإما حالة ظلم واستبداد. فعليها في الحالة الأولى أن تعيش في طاعة وإخلاص ، وعليها في الثانية أن تضم صفوفها ولا تتخاذل حتى ترد الملك عن غيه أو تحطم نير عبوديته . وعليها في كل حال أن تعتصم بالصبر والأناة ، وأن لا تطمع في صحبة الملوك ، والتقرب منهم ، لأن في ذلك تعباً وعبئاً ثقيلاً

 أدب النفس

على الإنسان العاقل في هذه الحياة أن يقدم العقل في كل الأمور ، فهو فوق المال والقوة ؛ وعليه أن يضبط نفسه ولا يؤخر عمله ، ويكون صادقاً في قوله وفي عمله ، ويُصانع ويعتمد الرفق والملاينة في أحوال كثيرة ، ويلزم جانب الحكر ، ولا يسترسل إلى النساء لأن المرأة في نظر واضع الكتاب ، لا تحفظ سراً ولا وداً ، ولا يحقد لأن من كان له عقل كان على إماتة الحقد أحرص منه على تربيته .

 أدب الصداقة

الصداقة من ضرورات الحياة ، وهي نوعان : صداقة قائمة على تبادل ذات النفس ، وهي المصافاة ، وصداقة قائمة على تبادل ذات اليد أي على المساعدة ، وهذه دون الأولى قيمة . وعلى العاقل أن يُحسن اختيار الصديق المخلص الذي لا يبخل بالمشورة ، وليعلم أن رأس المودة الاسترسال . وليعلم أيضاً أن ثلاثة أشياء تزداد بها الصلة بين الأصدقاء : ( المؤاكلة ، والزيارة في البيت، ومعرفة الأهل والحشم ، وأن وثلاثة لا يلبث ودهم أن يتصرم : الخليل الذي لا يلاقي خليله ولا يكاتبه ولا يراسله

 قيمة كليلة ودمنة من الناحية الفكري

الكليلة ودمنة قيمة كبيرة في عالم الفكر والتاريخ والأدب. فالكتاب كنز من كنوز الحكمة البشرية، وفيه فلسفة اجتماعية أخلاقية واسعة النطاق ، وفيه دروس تشريعية ذات قيمة ، وفيه نظرات ماورائية جليلة وإن موجزة ، وفيه على كل حال علم وعمل، وعلم موجه الى العمل ومن ثم يتضح لنا أن فلسفة الكتاب هي فلسفة الحياة العملية الشريفة ، هي فلسفة موضوعية مثالية ، ذات نزعة تشاؤمية يحوم عليها قدر غلاب لا يُقهر . وفلسفة كليلة ودمنة موسومة بسمة المذهب العقلي الذي يجعل العقل مديراً وموجهاً لكل حركة . وهكذا كانت تلك الفلسفة مزيجاً من أفلاطونية وأرسطوطالية وهندية شرقية. ونحن نلمس في الكتاب انفلاتات صوفية زهدية وهي من نزعات الفلسفة الهندية

أما النزعة الأفلاطونية في كليلة ودمنة فظاهرة في المثالية ، وظاهرة خصوصاً في التنظيم الاجتماعي حيث يسود العدل ، وحيث يسوس الناس جماعة من أهل العقل والحكمة والمعرفة . والفضيلة عند أفلاطون وفي كليلة ودمنة ذات صلة وثيقة بالعلم. وأما النزعة الأرسطوطالية فظاهرة في إخضاع كل شيء للعقل ، وفي تسيير الكلام على سنة التقسيم المنطقي ؛ والعقل عند أرسطو أشرف ما في الإنسان ، والميزة الخاصة التي تجعل الإنسان إنساناً وترفعه فوق جميع الموجودات الحسية ، وهو من ثم قائد جميع القوى ، وجميع أعمال الجسد خاضعة له. وأما النزعة الهندية الشرقية فظاهرة في التشاؤم الذي يحوم فوق كل كلام. وذلك أن الحياة ، في نظر الفلسفة الهندية ، عبودية ، وكل شيء في هذا الوجود ترهات وأباطيل ، ومن ثم دعت الفلسفة الهندية الى الصدوف عن خيرات العالم وراحت تبحث عن فقالت بالسيطرة على طريق الإنقاذ والخلاص ، النفس التي تنتهي بالسيطرة على العالم ، ودعت من ثم الى التقشف والزهد ، بل جعلت التقشف من مبادئها الأولى، ورمت به الى السيطرة على مجموع مظاهر النشاط الحيوي كما رمت الى إطلاق العقل العارف الذي يتغلب على كثافة المادة بالتقشف فيمتد إدراكه الى خارج الجسم بعيداً في المسافة وبعيداً في الزمن الحاضر والمستقبل

وفي هذه النزعة الهندية أثر صيني أيضاً، وقد أثبتت الكتب الصينية بطريقة شائقة العلاقة الوثيقة بين معرفة أنفسنا ومعرفة الأشياء ، فقالت – وكم في هذا القول من صلة مع ما نعرفه من كليلة ودمنة : وكان الملوك القدماء إذا أرادوا إظهار فضائلهم الباهرة تحت السماء حكموا أولاً بلادهم وساسوسا ، وإذا أرادوا حكم بلادهم اهتموا أولاً بمنازلهم ؛ وإذا أرادوا الاهتمام بمنازلهم بدأوا بتنظيم شؤون أنفسهم ، وإذا أرادوا تنظيم شؤون أنفسهم بدأوا بتقويم قلوبهم ؛ وإذا أرادوا تقويم قلوبهم بدأوا يجعل تفكيرهم خالصاً. وإذا أرادوا جعل تفكيرهم خالصاً بدأوا برفع مستوى معلوماتهم إلى القمة ورفع هذا المستوى الى القمة هو إدراك الأشياء ، وعندما أدركوا الأشياء بلغت معلوماتهم القمة . ولما بلغت معارفهم القمة أصبح تفكيرهم خالصاً ، ولما أصبح تفكيرهم خالصاً ستقامت قلوبهم . ولما استقامت قلوبهم استطاعوا أن ينظموا أنفسهم ، ولما أصبحوا هم أنفسهم مطابقين للنظام استطاعوا تدبير شؤون منازلهم ؛ ولما أحسنوا تدبير منازلهم تمكنوا من حكم بلادهم ، ولما استقام الحكم في بلادهم وجدوا ما تحت السماء في سلام . والملك في الفلسفة الصينية هو نقطة الدائرة في الأمة ، ونقطة الارتكاز في قيام النظام ، فإذا كان كاملاً سارت الأمور على هيئتها وساد السلام ؛ فعليه إذن أن يعرف بني الإنسان ليعرف نفسه ويقومها ، ومن ثم نرى في هذه الفلسفة القديمة أن قاعدة الإنسانية هي الإنسانية نفسها ، وأن الرجل الفاضل هو قانون الأخلاق . ومن ثم نرى أن في الفلسفة الشرقية القديمة محلاً واسعاً للملك ، وأن فيها اهتماماً خاصاً به لأنه قاعدة النظام وركن المجتمع ، وهكذا كان كتاب كليلة ودمنة صورة صادقة لتلك النزعة الشرقية وتلك الفلسفة القديمة

وإذا نظرنا الى الكتاب من الناحية التاريخية وجدنا فيه أيضاً ثروة وغنى ؛ فهو يطلعنا على أحوال الهنود ونظرهم الى الدنيا والآخرة، فيكشف لنا عن الكثير من عاداتهم ونزعاتهم ، وأحوالهم الاجتماعية كالعداوة بين البراهمة والبوذية ، ولبس البراهمة للمسوح والتكفير والسجود وما الى ذلك ، وكتحريم اللحم والاقتيات بالفاكهة ، والنظرة السيئة الى المرأة ، وهو يطلعنا على عقلية الفرس ونظرتهم الزهدية ومثلهم العليا ، كما يطلعنا على فتوح الإسكندر وما خلفت من أساطير في الشرق، وعلى بلاطات الملوك في العصور القديمة وما كان يجري فيها من سعايات ومكايد ، وعلى سياسة الدول الخارجية والحرب بين الملوك والأمم . وهو يطلعنا ، بطريق غير مباشرة ، على بعض أحوال الدولة العباسية وما كانت بحاجة إليه من إصلاح ، كما يُطلعنا على أمور أخرى كثيرة جعلت له قيمة حقة في عالم التاريخ البشري

  المثل في كليلة ودمنة

وإذا رجعنا الى المثل في كليلة ودمنة وجدناه متعدد الأنواع، متشعب الفروع. والمثل كما لا يخفى قديم في تاريخ الشعوب ، وهو شديد الانتشار في الشرق ، وقد أصبحت الأمثال الشرقية أساس الأمثال التي وضعها ايزوب عند اليونان ، وفيدر عند الرومان ولافونتين عند الفرنسيين. والمثل قصة ذات مغزى أخلاقي، وهذا المغزى موضح عادة في بدء المثل أو في ختامه .

والمثل في كليلة ودمنة يأتي إما كإطار الطائفة من الأمثال ، وإما كبرهان على قضية من القضايا ، وإما كشاهد على برهان. والأمثال متفاوتة في الطول ، فمنها الطويل الذي يستغرق الباب كله ، ومنها القصير الذي يقع أحياناً في بضعة أسطر، ومنها المتوسط الطول .

وتبدو لنا أمثال كليلة ودمنة مسرحيات صغيرة ذات مسرح طبيعي ، وذات عمل يقوم على عرض وعقدة وحل. والأشخاص حيوانات ذات صراع نفساني تعمل بحسب غرائزها الحيوانية ممثلة أدوار البشر في مختلف نزعاتهم الشخصية والاجتماعية .

إلا أن العمل في الأمثال متباطئ غالباً ، تثقله الحكمة التي هي الغاية وهي الجوهر تلك قيمة كتاب كليلة ودمنة ، وقد كان له أثر واسع في الأدب العربي والفلسفة العربية. وعمد الشعراء الى نظمه جملة أو في بعض أقسامه .

 الأدب الكبير والأدب الصغير

الأدب الكبير والأدب الصغير كتيبان ضمنها ابن المقفع طائفة من الحكم والمواعظ في أسلوب خطابي موجه الى العاقل الذي يريد أن يحصل على سعادة الدنيا والآخرة . وأكثر ما تدور تلك الحكم على أدب السلطان، وأدب النفس ، وأدب الصداقة. وكثيراً ما ترجع الحكم الى ما عرفناه في كتاب كليلة ودمنة

للكتابين قيمة فكرية حقة لما احتوياه من جليل الآراء في فلسفة الحياة الفردية والاجتماعية . وأما أسلوبهما الكتابي فهو الأسلوب الخطابي الجاف الذي يواجه الحقيقة بصراحة ، ويُعبر عنها في صرامة وسلطان ، وفي لهجة قاطعة لا تعرف التردد ولا تميل الى الشك. وقد خلا الكتابان من الأمثال التي شُحن بها كتاب كليلة ودمنة ، وكانا أشبه شيء بمجموعتين من الأقوال المأثورة والحكم المنثورة . والعبارة فيهما لا تخلو من تعقيد ، وهي مثقلة بالفكرة العميقة والفلسفة التي تهدف الى إصلاح النفس عن طريق المراقبة الذاتية والعقيدة العقلية ، والتي تهدف الى إصلاح الغير عن طريق الإقناع العقلي. والقاعدة في كل ذلك هي التوازن الاجتماعي الذي يقوم على العدل والاحترام والانضباط.

وإن من تتبع تاريخ الفكر العربي وجد أن لكتب ابن المقفع أثراً عميقاً في كتابة الفلاسفة ولا سيما في ما هو من شأن علمي السياسة والأخلاق

مدرسة جديدة في الكتابة 

إنه لمن الصعب أن تُبدي رأينا في أسلوب ابن المقفع بالاستناد الى ما وصل إلينا من نص كتاب كليلة ودمنة . وذلك أن المخطوطات التي بلغتنا من الكتاب ليست من القدم بحيث يستطيع الباحث أن يطمئن إليها كل الاطمئنان . أضف الى ذلك ما هنالك من اختلاف في الأبواب والعبارات . وإن ما اقتبسه الكتاب من كليلة ودمنة ، منذ القرن الثالث للهجرة يدل على أن النص لحقه تحريف بالغ . وليس باستطاعة الباحث أن يلجأ الى الأدبين الكبير والصغير ليستخرج منهما ميزات ابن المقفع في الكتابة ، لأن الأدبين مجموعتان من الآراء والحكم والدروس الاجتماعية والأخلاقية والسياسية ، في جمل موجزة ، مقطعة الأوصال ، خالية من التأليف والبناء

وسبيل الباحث أن يعمد الى كليلة ودمنة في أقدم مخطوطاتها ، والى النصوص التي وردت في مختلف المخطوطات ، ويعالجها معالجة استنتاجية ، مستنداً بعض

الى نص الأدبين الكبير والصغير، وإن قام بهذا العمل تجلت له الميزات الرئيسية التي اتسمت بها كتابة ابن المقفع .

١- وأول ما نقوله في هذا الباب أن المجتمع لذلك العهد أخذ يبحث عن مواد جديدة وصور للتعبير جديدة تكون أكثر ملاءمة لأحواله الجديدة، ولاسيما وقد امتزجت العناصر الفارسية والآرامية وغيرها بالحياة العربية الاجتماعية والأدبية. ومما لا شك فيه أن عبد الحميد بن يحيى الكاتب كان رائد الأسلوب الجديد في النثر العربي ، إلا أن ابن المقفع هو الذي أتمه وأوصله إلى أوجه حتى عد رأس التجديد الأسلوبي في النثر، وحتى نسب إليه الإنشاء الأدبي في اللغة العربية . قال المستشرق جب : ولو أنه اقتصر فما كتب على الأدب الكبير لما كان في كتابته شيء كثير يميزه عن سابقيه من كتاب المواعظ والوصايا المتعلقة بالآداب وحسن السلوك ، أما ما كان جديداً في مؤلفاته فهو أن كتبه المترجمة قد أعربت عن هذه المواعظ والوصايا بطريق غير مباشر في صورة تاريخ أو خرافة على ألسنة الحيوانات .. وهكذا فقد انتقلت الكتابة مع ابن المقفع من الرسائل الوعظية الى الأدب الجميل أو الكتابة الرفيعة التي ترفه وتفيد وتمتع في آن واحد ، ودخل النثر الى حقل الترجمة بعد دخوله ديوان الرسائل ، فواجه جميع الموضوعات

٢ – وتجاه هذه المادة الفكرية الجديدة سلك ابن المقفع طريق التحرر من خصائص الكتابة الهندية قدر المستطاع ، وتحرى الإفصاح عن الفكرة بأسهل ما يكون التعبير وأدقه ، وهكذا تحرى السهولة في اللغة والتركيب ، وباشر المعاني مباشرة قليلة التلميح والإشارة ، وقلما التجأ الى القوة التخيلية والمقدرة اللغوية عند القارئ ، وعدل عن أساليب التنميق والتصوير اللفظي الى العبارات المصقولة الجلية التي تسير بهدوء متماسكة الأجزاء .

٣. واحتفاء ابن المقفع بالمعنى يدفعه الى استخدام الأسلوب المنطقي فيقسم موضوعه الى فقرات ، تنقسم الى جمل ذات فواصل يمكن الوقوف عندها ، فأفكاره متسلسلة ، لا يلجأ فيها الى الغلو بل يواجه الحقيقة بهدوء ، ويبرهن عنها بقوة . وكذلك يحمله احتفاؤه بالمعنى على إطالة الجملة بهدوء ورصانة ، فهي تمتد امتداداً أرستقراطياً من غير ما توتب ولا تقلب ولا تلون ، متذرعة بالروابط المختلفة من حروف الجر والأسماء الموصولة ، وما الى ذلك 

٤- إلا أن إطالته هذه ليست من قبيل الإسهاب . فابن المقفع زاهد في كثرة الألفاظ وإن كان لا يكتفي بالإشارة ولا يعمد الى الحذف والتقدير؛ فهو يميل الى الايجاز ، ذلك الإيجاز الخاص الذي تكون فيه الألفاظ على مقدار المعاني. وهو لا يتعدى هذه الخطة إلا عندما يشعر أن معنى من معانيه قد يستغلق على فهم الرجل العادي ، فتراه إذ ذاك فقط يردّد ذلك المعنى في تراكيب متشابهة ، وأحياناً يضرب مثلاً أو مثلين أو يقص حكاية أو أكثر زيادة في تبيان الفكرة الواحدة ، كما يبدو ذلك في باب عرض كتاب كليلة ودمنة

ه – إلا أن توخي السهولة في موضوع حافل بالصعوبة جمل ابن المقفع على شيء من العنت في الترجمة وتأدية المعاني ، فوقع في بعض الغموض أحياناً ، ووقع في جمله بعض التداخل الى حد يستحيل معه تقسيمها الى عبارات كما في قوله : «أما البطتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنك يأتيك من قبل ملك بلخ من يقوم بين يديك بفرسين ليس في الأرض مثلهما

 

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Scroll to Top